Author

أدوات التغيير والوجبات الفكرية

|

الشعر، والقصة، والرواية، والمقال، والفيلم، والمسرحية، والكتاب، تمثل أدوات ومنتجات في الوقت ذاته. أدوات تحدث التغيير في الجمهور الذي يقرأها، أو يشاهدها للارتقاء بثقافته، وطريقة تفكيره ووعيه بشأن ما يحدث في الحياة من حوله، سواء في مجتمعه الصغير، أو في العالم. لذا نجد أن الأفلام والمسلسلات وبعض الروايات تجد انتشارا وقبولا، وحرصا من جماهير غفيرة خارج الوطن الذي تنتج فيه، لما فيها من فكر، أو تشويق، وترفيه يخرج الناس من واقعهم المعيش إلى واقع مفترض يستمتعون خلاله ولو لفترة وجيزة. واحتلت هذه الأدوات، أو بعضها خلال القرن الـ20 والـ21 مكانة مؤثرة في المجتمعات، سواء في مجتمع المنشأ، أو خارجه من خلال النقل والترجمة حتى تم توظيفها في التغيير القسري، والناعم في الوقت ذاته، القسري لأنه يخرج الناس من ثوابتهم التي توارثوها من آبائهم، والناعم لأن التغيير يحدث بهدوء ودون ضوضاء وجلبة، ويستلون كما تستل الشعرة من العجين.
الوقت الراهن، وفي زمن التقنية فائقة التقدم، وفي زمن السرعة واللهث وراء الزمن لم تعد الأمور على ما كانت عليه، فالشعر -على سبيل المثال- لم يعد لا في بنائه، ولا في أغراضه السابقة، بل دخلت عليه تغيرات، وظهرت أنواع لم تكن معهودة من قبل، فظهر الشعر القصصي، والشعر المسرحي، والشعر الملحمي، والشعر الحر، وشعر النثر، كما وجدت القصة القصيرة، وهذا كله ربما ليتناسب مع إيقاع العصر السريع الذي لا يحتمل فيه الناس طول الوقت للاستماع، أو القراءة، فيكفي التعرض للفكرة على عجالة.
في العصر الحديث، ظهرت على الساحة أدوات جديدة لنقل وبث كل ما سبقت الإشارة إليه، فيجد المرء الفيلم، والقصة، والخبر، والمقال ترافقه في جيبه من خلال "واتساب وتيك توك ونتفليكس ويوتيوب وتويتر وفيسبوك"، وغيرها من الأدوات ليدلي كل فرد أو شركة بما يعبر عن ذاته، أو يسوق منتجاته، ويخدم مصالحه لتتراكم الساحة الافتراضية بالغث والسمين، حتى يصعب على المتابع معرفة المفيد من الضار، والجيد والرديء، والصح والخطأ، ومن ثم تتشكل العقول والاتجاهات والمشاعر، نتيجة ما يمكن مقارنته بالبحر الهائج المتلاطم من كل الجهات.
من متابعتي لمنتجات هذه الأدوات وصلت إلى قناعة أن ترك الناشئة يتعاملون مع منتجات هذه الأدوات بلا إشراف ومتابعة وإرشاد حكيم، ستكون نتائجه وخيمة تشبه مصير من يدخل في وحل لتغوص قدماه، ويستحيل خروجه، ومن ثم هلاكه، لذا فإن الإجراء الذي لجأت إليه الصين لمنع هذه المنتجات من الوصول إلى الشعب الصيني ربما يكون إجراء طبيعيا لحمايته من العبث بعقله الجمعي، وليستمر تحت مظلة هويته السياسية والثقافية. ومع الحرب الشرسة الناعمة بين الصين، والغرب ربما يفشل هذا الإجراء لو لم تتمكن الصين من تحقيق التقدم الصناعي والتقني الذي يمكنها من إيجاد البدائل.
في واقع الحال الذي يعيشه العالمان العربي والإسلامي متمثلا في تأخرهما في إيجاد الأدوات إلا أن كثيرا من الأفراد والشركات تمكن من استغلال الأدوات في إنتاج وتقديم منتجات مختلفة عن المنتجات الفكرية والثقافية الوافدة عبر الأثير والنت وغيرهما من الوسائط، لتمثل هذه المنتجات جرعات وعي لمن يمكن الوصول إليهم، إلا أن درجة المنافسة للمنتجات الوافدة من خارج الحدود لا يمكن الوثوق بقدرتها على الصمود، نظرا إلى السرعة الفائقة في اختراع الأدوات والمنتجات التابعة لها، وذات الإغراء القوي، خاصة للأقل نضجا ووعيا ما يوقعهم فريسة لها.
ما من شك أن الوقوف في الصفوف المتأخرة في إنتاج التقنية يجعل من يقبل بهذا المكان في موقع المدافع، وعادة المدافع يكون خاسرا لأن خصمه ينتج سلاحا جديدا، سواء كان ماديا أو فكريا، حتى يتحول المدافع إلى ما يشبه من يركض لاهثا خلف سيارة تسير بسرعة فائقة طمعا في تعديها، أو على أقل تقدير اللحاق بها، وأنى له تحقيق ذلك.

إنشرها