بنوك تفشل .. هل الحل في تركها؟

لا تزال تداعيات انهيار بنك سيليكون فالي وبنك كريدي سويس تواصل أثرها العميق، وأصبحت قضية مطروحة للنقاش الواسع والمستمر بين المتخصصين وخبراء ومستشاري المصارف المالية بشأن المعالجة، والإدلاء بآرائهم لطرح الحلول المناسبة لمثل هذه الانهيارات. وقد مر العالم بتجارب مختلفة خلال الفترة الماضية، فترك هذه البنوك تنهار قد يؤدي إلى فوضى عارمة في النظام المالي، ومعه انهيار غير معروفة نهايته في الاقتصاد العالمي.
فالأنظمة المالية أصبحت مترابطة بشكل لا يمكن معه لأي دولة أن تبقى بعيدة دون أن يلحقها أذى وأضرار بأي شكل. ومع تعاظم دور البنوك، وأيضا تعرضها أكثر للصدمات المالية، أصبح دور الحكومة في إنقاذ البنوك المتعثرة أهم، ويحتاج إلى تأطير واضح، خاصة أنه ليس لكل دولة القدرة على إنقاذ البنوك المتعثرة، كما أن لكل دولة سعة محدودة من القدرة على إنفاذ التوجيهات العالمية بشأن عملية الإنقاذ.
وعلى هذا الصعيد، نشر مقال في صحيفة "الفاينانشيال تايمز" كتبه هارولد جيمس صاحب كتاب "الانهيارات السبعة"، ونشرته "الاقتصادية" أخيرا، يؤكد فيه هذه الحقيقة، وأنه ليس كل الدول قادرة على الإنقاذ، بل إن الفكرة نفسها تتطلب مراجعة واضحة.
فإنقاذ البنوك المتعثرة يأتي عبر ما يسمى "تأمين الودائع"، وهو ضمان الحكومة بأن أموال صاحب الحساب في البنك مؤمن عليها حتى مبلغ معين، من قبل مؤسسة للتأمين على الودائع يتم إنشاؤها في كل دولة، وينضم كثير من البنوك المركزية إلى الاتحاد الدولي لشركات تأمين الودائع IADI، الذي يضم 110 من الأعضاء المعنيين بتعزيز فاعلية تأمين الودائع والتعاون الدولي، بما في ذلك المراقبون والشركاء الذين يمثلون البنوك المركزية والهيئات الدولية والمؤسسات المالية والصناديق التي تهدف إلى حماية المودعين.
وفكرة تأمين الودائع تتضمن القيام بعملية الاستحواذ على البنك الفاشل من قبل مؤسسة مالية أخرى، على أساس أن هذا سيضمن عدم ضياع أموال المودعين، بأن يتم تحويل حساباتهم على الفور إلى البنك الجديد، هذه الفكرة بالذات التي ينتقدها مؤلف كتاب "الانهيارات السبعة"، وأن البنوك التي يتم تحويل الحسابات إليها تتعرض لضغط خلال الفترة الانتقالية، ويضرب لذلك مثلا بما حدث في بداية الكساد العظيم 1929، عندما فشل بنك "بودينكريديتانشتالت" أكبر بنك في البلاد آنئذ، حيث تم إجباره على تنفيذ الاستحواذ، وبعد أقل من عامين انهار هذا البنك، والنظام المصرفي الألماني أيضا، ومن ثم انتشر الذعر في لندن ونيويورك، معلنا بداية أزمة الكساد.
فما حدث فعليا هو أن المودعين والدائنين والمساهمين يدركون أن الفشل كان بسبب الفساد، فما إن تهدأ الأمور حتى يبدأ الجميع في سحب أموالهم بهدوء، ما يجعل البنك الذي نفذ الاستحواذ معرضا لكارثة جديدة، ما لم تتدخل الحكومة بنفسها وتدعم البنك، هنا تنجلي الحقيقة بأن إنقاذ البنوك هو عمل الحكومة، والإجراءات التي يتم اتخاذها هي فقط لتهدئة الناس من الاندفاع غير المنظم لسحب الودائع بما يهدد النظام المالي والاقتصاد ككل، لهذا تحمي بعض البنوك الكبيرة نفسها من خلال رفض عملية الاستحواذ، فبعد ما حدث انهيار بنك "كريديتانشتالت"، الذي انهار بسبب عملية الاستحواذ، رفض بنك "دويتشه" التماس الحكومة بأن يستولي على بنك مفلس آخر، وهنا ينتقد هارولد جيمس بكل صراحة عملية إنقاذ بنك كريدي سويس من خلال إلقائه في أحضان بنك يو بي إس، على عجل، دون مفاوضات، ما ينذر بتكرار تجربة البنك الألماني.
لكن لماذا تمت عملية إنقاذ البنك السويسري بهذه الطريقة؟ يشير الكاتب إلى ملاحقة سويسرا للنموذج الأمريكي الذي تم في 2008، عندما اشترى "جيه بي مورجان" بنك بير ستيرنز، حيث نجحت العملية، كما لا يزال بنك جيه بي مورجان في صحة جيدة.
فالواضح أن قيام بنك قوي بإدارة التكامل مع مؤسسة منهارة، هو عملية ناجحة، لكن التجربة الألمانية قبل الكساد الكبير لم تزل ناجحة أيضا كما يبدو للكاتب، فكيف يتم الجمع بين النموذجين؟ يؤكد صاحب كتاب "الانهيارات السبعة"، أن هذا الإجراء يعتمد على دعم ميزانية فيدرالية ضخمة وبنك مركزي يتمتع بميزانية عمومية، فالولايات المتحدة، وربما الصين أيضا، يمكن أن تنجح في عمليات كهذه، لكنها تعد خطيرة للغاية بالنسبة إلى الدول الصغيرة، فالتمويل الكبير يلائم اللاعبين الكبار فقط، وفقا لوصف الكاتب.
وإذا كانت هذه النظرية صحيحة، وأن الإنقاذ الكبير بهذا الحجم يتطلب نظاما ماليا قويا ومستقرا أيضا، فكيف تتصرف الدول الصغيرة؟ يضع الكاتب فلسفته في هذا الشأن بأن البنوك الكبيرة في الدول ذات الحيز المالي الصغير تصبح تهديدا خطيرا، ويستشهد على ذلك بأن الأزمات في البنوك الكبيرة الحجم أدت إلى زعزعة الاستقرار المالي في أيرلندا وآيسلندا، وتطلب ذلك تدخلا سريعا من صندوق النقد الدولي، وعلى هذا فإن الدول ذات الحيز المالي الصغير نسبيا يجب ألا تضم بنوكا من نوع "أكبر من أن تفشل"، والحل هو ترك هذه البنوك تفشل إذا لزم الأمر، أو أن تتم عملية الاستحواذ من خلال مفاوضات جادة، وليس من خلال عملية سياسية قد تكون ذات أثر خطير.
لذلك سيتعين علينا مراقبة سلوك بنك يو بي إس خلال العام المقبل وما بعده لفهم الأثر العميق لهذه النظرية التي يطرحها الكاتب، وهل سيقوم المودعون والمساهمون بالخروج من بنك يو. بي. إس، أم يستطيع هذا البنك إثبات أن السلوك قد تغير مع الأنظمة الحديثة للدفع، والقدرة الواسعة على الوصول إلى المال، والتحويل بين البنوك بسلاسة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي