Author

هل هي مجرد سوء إدارة؟

|

التصريحات التي أدلى بها عدد من المسؤولين الذين تم استجوابهم من قبل لجنة البنوك في مجلس الشيوخ الأمريكي، تشير بأصابع الاتهام إلى إدارة بنك سيليكون فالي على أنها المسؤولة عن انهيار البنك في أوائل الشهر الجاري، والتي كادت عدواها أن تنتقل إلى بنوك أخرى داخل الولايات المتحدة وخارجها. ليس بمستغرب أن يلقي نائب الرئيس المسؤول عن الإشراف على البنوك في مجلس الاحتياطي الفيدرالي اللوم على أطراف أخرى، ويتجاهل دور مجلس الاحتياطي الفيدرالي في ذلك. وليس بمستغرب أن يشير رئيس الجهة الضامنة لودائع العملاء في البنوك FDIC، إلى أن برنامج تعويض العملاء الذي أقرته وزارة الخزانة لتعويض العملاء لما فوق 250 ألف دولار، سيكلف أكثر من 20 مليار دولار، ما يعني خسارة لمنظمته لا بد من تعويضها عن طريق رفع رسوم التأمين على البنوك.
نعم كانت هناك حالات سوء إدارة لكل من بنك وادي السيليكون، ثاني أكبر حالة انهيار بنكية في الولايات المتحدة، وبالمثل لبنك سيجنتشر الذي يعد ثالث أكبر انهيار بنكي، لكن لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل تأخر مجلس الاحتياطي الفيدرالي في التعامل مع التضخم منذ بداياته ما أضطره في النهاية إلى رفع متواصل وسريع ومتشنج لمعدلات الفائدة.
سوء الإدارة في بنك وادي السيليكون لم يكن في توظيف ودائع البنك في أصول عالية المخاطرة، بل على العكس تماما فجميع الاستثمارات كانت في أوراق دين ذات متانة عالية مصدرة من قبل الحكومة الأمريكية، أو من قبل مؤسسات مالية كبيرة. سوء الإدارة، كما يراه مسؤول مجلس الاحتياطي، يتمثل في قيام البنك بالاستثمار في سندات طويلة الأجل دون مراعاة متطلبات السيولة قصيرة الأجل، ومن ثم تكبد خسائر كبيرة حين اضطر البنك إلى بيع هذه السندات بسعر منخفض.
صحيح أن ما قامت به إدارة البنك فيه نوع من المخاطرة، لكن السبب الرئيس في الانهيار ليست الأسعار المنخفضة لتلك السندات، بل لتعاظم عمليات سحب الودائع بسبب حالة الهلع التي اعترت المودعين، حيث تم سحب 42 مليار دولار في يوم واحد، معظمها تمت خلال ثوان معدودة بعمليات تحويل إلكتروني عن طريق الهواتف الذكية. ولو أن أي بنك آخر، كبيرا أو صغيرا، تعرض لمثل هذه السحوبات لانهار تماما كما انهار بنك وادي السيليكون.
نعم هناك خلل تم ارتكابه من قبل إدارة المخاطر في البنك يتعلق بعدم قيام البنك بإجراء تحوط ضد ارتفاع أسعار الفائدة، أو أنه لم يقم بتنفيذ ما يكفي من عمليات التحوط. فالمعروف أن هناك مشتقات مالية متاحة الهدف منها الوقاية من مخاطر هذه الحالات، فهناك مثلا عقود مستقبلية على سندات الخزينة الأمريكية يمكن شراؤها لفترة معينة بهدف ضمان عدم تأثر استثمارات البنك في السندات التي تسببت في الأزمة. استخدام العقود المستقبلية، أو غيرها كعقود الخيارات على السندات أو عقود مبادلة أسعار الفائدة، كان بالإمكان أن تحمي أصول البنك وتجنبه الخسائر الكبيرة التي اضطر البنك إلى تلقيها في نهاية الأمر.
يبحث في الأزمات دائما عن شماعة يلقى عليها اللوم، وعادة كل جهة مسؤولة تلقي باللوم على الجهة الأخرى، فمن ضمن مسببات انهيار البنك أشارت بعض الأطراف إلى قانون صدر في 2018 يعفي البنوك الكبيرة من ضوابط معينة بخصوص الاحتفاظ بمستويات معينة من السيولة النقدية، وكذلك إعفاؤها من بعض اختبارات الجهد التي يقوم بها البنك المركزي. كذلك لم يخل برنامج الإنقاذ من انتقاد البعض في أن سرعة تفعيل البرنامج وحجم الدعم الذي تم من خلاله ما كان سيتم لو أن الحالة كانت خاصة ببنك إقليمي عادي، بل لأن عملاء البنك من الأثرياء من مؤسسات رأس المال الجريء والشركات التقنية المدللة.
الحقائق التي أمامنا في نهاية المطاف هي أنه حتى الآن يبدو أنه بالفعل تم تجنب انتشار عدوى البنوك، حيث هدأ خوف المودعين وارتاحت الأسواق، وبالفعل رأينا ارتدادا في أسعار البنوك الإقليمية أو على الأقل التوقف عن الهبوط لعدد كبير منها. ويبدو أن هناك وعيا أكبر لأهمية تكثيف المراقبة على البنوك وتفعيل دور الجهات الرقابية، التي حاليا تكتفي بدق ناقوس الخطر داخليا دون قيامها بأي إجراءات استباقية وبلا تمتعها بأي صلاحيات فيما يخص سلامة أصول البنوك واستثماراتها، وهذا موضوع جدلي، إلا أن هناك مطالبات بمزيد من الصلاحيات في هذا الشأن للجهات الإشرافية في مجلس الاحتياطي وفروعه المنتشرة في الولايات المتحدة.

إنشرها