Author

السياسة النقدية في ظل عالم متغير «2 من 4»

|
بشأن التفاعل النقدي ـ المالي تبدو البنوك المركزية في عملها وكأنها المسؤولة عن إدارة الاقتصادات الحديثة، فتتولى تحديد أسعار الفائدة بغية الوصول إلى استقرار التضخم، وإلى تحقيق التوظيف الكامل في أغلب الأحيان "في الاقتصادات المتقدمة". وإحدى الركائز الأساسية في هذا المنهج، الذي يمكن تسميته "هيمنة السياسة النقدية"، هي استقلالية البنوك المركزية. فأي بنك مركزي يتمتع بالاستقلالية القانونية إذا كان القانون يخول له السلطة المطلقة في تحديد أسعار الفائدة دونما تدخل من الحكومة. إلا أن الاستقلالية الفعلية لا تقل أهمية أيضا، فعند تحديد أسعار الفائدة، ليس على البنوك المركزية أن تكترث بما إذا كان رفع هذه الأسعار سيزيد من مديونية الحكومة أو مخاطر التعثر في السداد. ذلك أنها حين ترفع أسعار الفائدة ويصبح على الحكومات دفع المزيد لسداد ديونها، يكون المسار المأمول هو أن تخفض السلطات النفقات، ما يهدئ فورة النشاط الاقتصادي ويحد من الضغوط التضخمية. والاستقلالية هي الركيزة التي تتوقف عليها قدرة البنوك المركزية على تحديد السياسة المالية والسيطرة على الاقتصاد في الأوقات العصيبة.
وفي أعقاب الأزمة العالمية، كان السائد هو أسعار الفائدة المنخفضة ومستويات الدين العام الأقل تطرفا، ما أتاح للبنوك المركزية تجاهل التفاعلات التي لم تكن مؤثرة نسبيا آنذاك بين السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. وكانت الفترة التالية لأزمة 2008 هي فترة من هيمنة السياسة النقدية ـ أي أن البنوك المركزية كان بإمكانها تحديد أسعار الفائدة بحرية والسعي إلى تحقيق أهدافها على نحو مستقل عن سياسة المالية العامة. ورأت البنوك المركزية أن المشكلة الرئيسة لا تكمن في الأسعار المتزايدة، وإنما في احتمال أن يسفر ضعف الطلب عن حدوث انكماش كبير. ونتيجة لذلك، انصب تركيزها في الأساس على استحداث أدوات غير تقليدية للسياسة النقدية تمكنها من تقديم دفعة تحفيز إضافية. وشعرت البنوك المركزية بأن لديها الجرأة أيضا على اتباع سياسات من شأنها الجمع بين تلبية الحاجة إلى مزيد من التحفيز وتحقيق الأهداف الاجتماعية، مثل الإسراع بالتحول الأخضر أو تعزيز الإدماج الاقتصادي.
وأثناء أزمة كوفيد- 19، تغيرت الظروف بدرجة هائلة. فقد شهد الإنفاق الحكومي ارتفاعا حادا في معظم الاقتصادات المتقدمة. ففي الولايات المتحدة، قدمت الحكومة الفيدرالية دعما هائلا شديد التركيز في شكل "شيكات تحفيز" أرسلت إلى الأسر المستفيدة مباشرة. أما الدول الأوروبية، فقد بدأت تطبيق برامج في حدود أضيق إلى حد ما "ركزت في معظمها على الحيلولة دون تسريح العمالة وعلى برامج الإنفاق الرامية إلى المساعدة على عمليات التحول الأخضر والانتقال الرقمي". ويبدو أن توسع المالية العامة كان دافعا أساسيا للتضخم في الولايات المتحدة، بل إنه أسهم أيضا في التضخم الذي تمر به أوروبا. لكن، في الوقت الذي كان الإنفاق فيه يتزايد، كانت الدول تعاني صدمات في العرض بلغت حجما غير مسبوق، وهو ما يعزى في معظمه إلى المشكلات المتصلة بجائحة كوفيد- 19 مثل انقطاعات سلاسل الإمداد. وأدت هذه التطورات إلى زيادة الضغوط التضخمية.
وقد دللت الجائحة على أن السياسة النقدية في حد ذاتها لا تؤدي دوما إلى السيطرة على التضخم. فسياسة المالية العامة تضطلع بدور أيضا. والأهم من ذلك أن ما صاحبها من تراكم الدين العام زاد من احتمالية هيمنة سياسة المالية العامة ـ التي لا يستجيب في ظلها العجز العام لإجراءات السياسة النقدية. وفي حين أن انخفاض مستويات الدين والحاجة إلى دفعة تحفيزية أتاحا للسلطات النقدية والمالية التحرك معا في أعقاب الأزمة المالية العالمية، فإن احتمال هيمنة سياسة المالية العامة اليوم يهدد بإحداث صدام بينهما. ذلك أن البنوك المركزية تفضل رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، لكن الحكومات تكره زيادة الإنفاق على الفوائد. وهي تفضل أن تتعاون معها البنوك المركزية عن طريق تسييل ديونها ـ أي بشراء السندات الحكومية التي لا يرغب مستثمرو القطاع الخاص في شرائها.. يتبع.
إنشرها