تغيرات الفائدة تضغط على المصارف

تتركز شركات التقنية في وادي السيليكون الذي يعج بولادة الشركات الجديدة. وتخصص مصرف وادي السيليكون SVB في خدمة شركات التقنية الناشئة في الوادي منذ 1983. احتل هذا المصرف المركز الـ16 من حيث الموجودات من بين أربعة آلاف مصرف أمريكي. كان وضع المصرف المالي جيدا حتى العام الماضي عندما عانى خسائر استثمارية بسبب الرفع السريع للفائدة. انهار هذا المصرف أخيرا بسرعة وفي أقل من يومين، ما صدم الأسواق المالية والقطاعات المصرفية حول العالم. وسرعت التطورات التقنية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وطبيعة المصرف، وتركزه في منطقة جغرافية وصناعة محددة من تهاوي المصرف. وجاء انهيار هذا المصرف الثاني من حيث الحجم في تاريخ الولايات المتحدة.
تختلف طبيعة المصرف عن المصارف الأخرى، حيث مثلت الشركات الناشئة معظم عملائه. وترتفع مستويات مخاطرة هذه الكيانات التي تميل بشكل أكبر لتحويل ودائعها وأنشطتها المالية إلى مصارف أخرى. ارتفعت الإيداعات لدى المصرف أثناء فترة الجائحة. ونتيجة لذلك اندفعت إدارته للمبالغة في شراء سندات حكومية وسندات عقارية مدعومة طويلة الأجل، على الرغم من انخفاض معدلات الفائدة عليها. لاحقا وبعد ارتفاع معدلات التضخم، بدأ مجلس الاحتياط الفيدرالي رفع معدلات الفائدة بسرعة، ما خفض أسعار السندات والقروض المصدرة بمعدلات فائدة منخفضة. قادت الزيادات المتسارعة لمعدلات الفائدة إلى تراجع قيم أصول المصرف وخسارة موجوداته مليارات الدولارات. وما زاد الأمور سوءا وفاقم وضع المصرف المالي أخيرا تراجع ودائع عملاء المصرف بسبب الظروف الاقتصادية الراهنة لقطاع التقنية. وكانت قاصمة الظهر إعلان المصرف بيع سندات بخسارة ما يقارب ملياري دولار قبل عدة أيام من انهياره للوفاء بالتزاماته، ما أشاع الذعر بين المودعين، وأدى إلى هروب جماعي للموارد وتراجع قيمته السوقية.
سرعت وسائل التواصل الاجتماعي من نشر الهلع بين المودعين المتركزين في حيز جغرافي محدود، كما يسرت التقنية من تحويل الأموال من المصرف، حتى إنه خسر ما يزيد على 40 مليار دولار من ودائعه في التاسع من آذار (مارس) الحالي. وتسبب هذا في عجز المصرف عن تلبية طلبات عملائه، ما أجبر السلطات المالية على حجزه.
وضعت الولايات المتحدة قيودا إضافية على المصارف لضمان سلامتها بعد الأزمة المالية العالمية في 2008. لكن هذه القيود رفعت عن المصارف الأقل حجما، التي تقل موجوداتها عن 250 مليار دولار في 2018. ويرجح بعض المختصين أن رفع هذه القيود أسهم في انهيار المصرف. لذلك ترتفع أهمية الالتزام بمعايير سلامة المصارف وعدم التهاون في فرضها بغض النظر عن حجم المصرف. وتكثر المصارف في الولايات المتحدة بسبب حرية إنشائها والأنظمة المصرفية المتباينة بين الولايات. وتخدم معظم المصارف الأمريكية مناطق معينة وتتخصص فيها، ما يساعد على التجاوب مع المتطلبات المحلية والمناطقية للجهات الجغرافية والصناعات المستهدفة. في المقابل، فإن كثرة المصارف تخفض أحجام معظمها وقدراتها المالية والفنية على مواجهة التقلبات والمخاطر المالية والاقتصادية. وهذا بدوره يرفع مخاطر انهيار أحدها الذي يؤثر في استقرار القطاع المصرفي في البلاد كلها. كما أن استقرار القطاع المصرفي في أكبر اقتصاد وخدمات مالية عالمية يؤثر في الاقتصاد العالمي ويثير المخاوف. لهذا برزت مخاطر انهيارات مصرفية متعددة في دول أخرى.
ارتفعت أخيرا الضغوط والمخاطر التي تواجهها القطاعات المصرفية. ورفعت التطورات التقنية مستويات المنافسة بين المصارف، ما ضغط على صافي فروقات معدلات الفائدة. وفاقم تراجع معدلات الفائدة خلال الأعوام الأخيرة وفاتورة الطلب على الائتمان وأزمة كورونا من الضغوط على الفروقات وخفض العوائد من منح الائتمان. وارتفعت الإيداعات منخفضة التكلفة خلال أزمة كورونا، لكنها بدأت تتراجع في عدد من المصارف مع ميل العملاء للبحث عن عوائد أعلى بسبب ارتفاع أسعار الفائدة الأساسية. أما في الفترة الأخيرة فقد ثبطت توقعات رفع معدلات الفائدة استثمارات المصارف. إضافة إلى ذلك، رفعت زيادات معدلات الفائدة المتسارعة مخاطر تراجع دخول المصارف ورؤوس أموالها. وتواجه المصارف مخاطر إعادة تسعير وحلول آجال الموجودات من قروض واستثمارات وخيارات مقابل أسعار وآجال المطلوبات من إيداعات واقتراض. كما تواجه المصارف مخاطر إعادة تسعير فوائد السندات متباينة المدة، حيث تتباين التغيرات بين السندات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل.
تأتي المخاطر في القطاعات المصرفية من كون معظم موجوداتها طويلة الأجل على هيئة سندات أو قروض، بينما تكون المطلوبات قصيرة الأجل معظم مطلوباتها. لهذا تمثل ثقة العملاء رأس مال المصرف الحقيقي، حيث تدعم الثقة بقاء الإيداعات في المصرف وعدم هروبها. وهذا يتطلب من المصرف بذل كل جهد للحفاظ على ثقة العملاء بما في ذلك اتخاذ الاحتياطات اللازمة للوفاء بطلبات العملاء في أي وقت، خصوصا هذه الأيام التي يمكن أن يسحب العملاء أرصدتهم بسرعة فائقة. وهذا يستدعي الموازنة الحذرة بين قيم ومدد موجودات ومطلوبات المصرف، وكذلك ضرورة توافر رؤوس أموال وخطوط ائتمان وخيارات مناسبة للوفاء بمتطلبات السيولة عند الحاجة. كما يستدعي إشراف ومساندة الجهات المعنية، خصوصا البنوك المركزية في منع انهيارات المصارف، وضرورة أخذها في الحسبان ارتفاع مخاطر تغير أسعار الفائدة على المصارف عند صنع السياسات النقدية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي