Author

موجة إفلاسات .. قصيرة أم طويلة؟

|

لا حديث اليوم في العالم أكثر ضجيجا من الحديث عن الإفلاس وهاجسه، لقد كان انهيار ثلاثة من البنوك الأمريكية أخيرا أمرا مقلقا لا من حيث السعة والانتشار، بل من حيث إمكانية تكرار سيناريوهات 2008، وما تطلبه العالم حين ذاك من إجراءات دعم كبيرة لانتشال الاقتصاد العالمي من براثن كساد مرعب وطويل. أدت تلك المخاوف إلى قيام الحكومة الأمريكية وحكومات عديدة حول العالم بضخ المليارات من الأموال لشراء أصول سيئة وإمداد البنوك بسيل من التدفقات النقدية التي تمكنها من الاستمرار، وتعطلت من أجل ذلك عديد من الاعتبارات والقيود والنظريات، وظهرت تفسيرات جديدة تماما من بينها نظرية أن هذه المؤسسات العملاقة أكبر بكثير من أن تفشل، وهذا التفسير اجتماعي بحت، وليس له علاقة بتجريبية الاقتصاد، ولا من حيث حرية الأسواق، لكن ترك الأسواق تعمل، وفق حريتها ليس دائما سلوكا اجتماعيا رشيدا.
وكان مصرف سيليكون فالي SVB الذي أعلن عدم قدرته على مقابلة سحوبات العملاء معروفا لدى جمهور واسع بتخصصه في تمويل الشركات الناشئة حتى نهاية 2022، كانت لديه أصول بقيمة 209 مليارات دولار وودائع تبلغ 175.4 مليار، ولم يكن SVB مجرد بنك للشركات الناشئة المدعومة برأس المال الجريء، بل كان المصرف الأكبر بحصة تتجاوز 50 في المائة من شركات رأس المال الجريء.
ولهذا، فإن الأسئلة كثيرة وكبيرة بشأن هذه العلاقة، وهل ارتفاع الديون على الشركات المدعومة والناشئة قاد البنك إلى الإفلاس خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة، وهل مثل هذا السيناريو سيوقف خطة رفع أسعار الفائدة، ليست الإجابة سهلة طالما لم يتم حسم النقاش بشأن الأسباب الكامنة خلف هذه الموجة، التي رصدت "الاقتصادية" بعضا من مظاهرها في تقرير موسع عن إفلاس الشركات الألمانية، حيث ارتفع عدد الحالات في ألمانيا للمرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية 2009، ما يثير مخاوف هذه الموجة مع ازدياد أعداد الشركات المثقلة بالديون. وقد أعلن مكتب الإحصاء الاتحادي أخيرا، أن المحاكم المختصة سجلت 14 ألفا و590 حالة إفلاس شركات في 2022، بزيادة قدرها 4.3 في المائة، مقارنة بـ2021.
ومن خلال فحص وقراءة هذه الأرقام وتحليلها، فهناك نظريات مختلفة حول زيادة عدد الحالات، وتظل البيئة الاقتصادية التنافسية الحادة أهم هذه التفسيرات. كما يمكن أن تؤدي التغييرات في بيئة الأعمال نتيجة دخول أسواق جديدة أو إعادة هيكلة الاقتصاد إلى حالات من الإفلاس لتراكم الأخطاء وصعوبات تغيير خطوط الإنتاج بسهولة لمواكبة التحولات الجديدة، كما أن سرعة فقدان رأس المال، كما حدث مع البنك الأمريكي وعدم القدرة على تأمين رأس مال جديد، وارتفاع الديون تعد من الأسباب، ولهذا تعد المؤشرات الخاصة بالسيولة والملاءة المالية عناصر أساسية في تحديد المشكلات المالية وقدرة الشركة على سداد الالتزامات والديون.
ومن المستقر علميا أنه لا يمكن معالجة إفلاس بتأجيله، بمعنى أن إجراءات تأجيل الدفع الجدولة للدين لن تجدي نفعها طالما لم تحل المشكلات الحقيقية الكامنة خلف هذا الوضع، التي تكون متعلقة بمصادر التدفقات النقدية وسرعتها في آن معا. أما بشأن الشركات الألمانية فإن أحد أهم الأسباب التي رفعت الحالات هو تعليق تقديم طلب الإعسار كليا أو جزئيا خلال الفترة من آذار (مارس) 2020 حتى أيار (مايو) 2021 وهو ما حال دون حدوث هذه الموجة خلال جائحة كورونا، وتوقع الخبراء زيادة في الحالات بين الشركات بعد انتهاء سريان هذه الاستثناءات.
ولهذا، فإن البعض يفسر ما يحدث عالميا في هذا الاتجاه بأنه نتيجة لهذه الإجراءات من تأجيل الإفلاس، وليس لأنها موجة تشبه ما حدث في 2008. بمعنى آخر فإن البنية الاقتصادية العالمية متماسكة، وحدوث حالات هو أمر متوقع وكثير من الشركات والبنوك العالمية قد تحوطت لمثل هذه الحالة، لكن اعتبار هذه الشركات مفلسة قد تم تأجيله بسبب الإجراءات التي تم اتخاذها مع انتشار فيروس كورونا، ويدل على ذلك أن الإفلاس في الشركات الألمانية قد تراجع فعليا في كانون الثاني (يناير) الماضي بنسبة 3.2 في المائة، مقارنة بالشهر السابق له.
وبعيدا عن التفسيرات الخاصة بشأن تأجيل هذا الوضع نتيجة إجراءات كورونا، فمن الأسباب الكامنة خلف زيادة عدد الشركات التي تعلن إفلاسها، التغيرات التي يشهدها الاقتصاد العالمي، ومن ذلك تراجع التجارة الخارجية العالمية نتيجة الحرب ومشكلات سلاسل الإمداد وارتفاع الأسعار، ولا بد من أخذ هذه الأسباب في الاعتبار، حيث تتقلب مستويات السيولة والتدفقات النقدية السريعة، فقد شهد الاقتصاد الألماني تراجعا واضحا في منتجات اللحوم وتقلصت الصادرات والواردات وقد كان لتشديد لوائح الاستيراد في الصين السبب الأكبر لهذه التراجعات.
وفي مقابل التراجع في هذه الصناعة الألمانية نلاحظ سعي شركة صناعة السيارات الكهربائية الأمريكية تسلا لزيادة الطاقة الإنتاجية لمصنعها العملاق بالقرب من العاصمة الألمانية الذي من المقرر وصول الطاقة الإنتاجية فيه إلى 500 ألف سيارة سنويا، ويضم المصنع حاليا نحو عشرة آلاف عامل، ومن المتوقع وصوله إلى 12 ألف عامل في المرحلة الأولى للتوسعات، وهذا يقدم دليلا مختلفا حول سلامة الأسواق، لكن في المقابل هناك تغيرات وتحولات اقتصادية راهنة لها أسباب كامنة في قدرة الشركات على الحصول على تمويل أو زيادة التدفقات النقدية وسرعتها لمواجهة التغيرات في أسعار الفائدة، وبالتالي إفلاس الشركات، ولهذا يجب دراسة كل هذه العوامل عند قياس مخاطر هذا الأمر وقبل اتخاذ قرارات الاستثمار.
وأخيرا لا ننسى أن هنالك عوامل مهمة ساعدت على إعلان هذه الشركات إفلاسها، هو أن ألمانيا تواجه خطر أزمة اقتصادية واجتماعية. وتخطط لإنفاق 200 مليار يورو لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، في وقت بلغ فيه التضخم في البلاد أعلى مستوى في ربع قرن. ومن جراء هذه الأوضاع فقد أعلنت الحكومة الألمانية أنه يتعين على الشركات والأسر الألمانية ترشيد استهلاك الغاز بشكل أكبر، في الوقت الذي تخوض فيه البلاد غمار أزمة الطاقة التي تمر بها أوروبا وقد تتحول إلى أزمة اقتصادية واجتماعية أيضا. ولا بد أن تسترد ألمانيا كل قوتها وعافيتها الاقتصادية، كاقتصاد يصنف الأول على مستوى القارة البيضاء والرابع عالميا، لإيجاد حلول للخلل الذي ضرب مؤشرات نمو وإيرادات وأرباح الشركات المحلية حتى تنهض من حالة الإفلاس التي تعانيها.

إنشرها