تعد قضية الأمن الغذائي العالمي قضية مؤرقة لمعظم بلدان العالم بدرجات مختلفة، وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي والقارة الأوروبية لا يواجهان تحديا آنيا في هذا الشأن، فإن القضية باتت ملحة بالنسبة للقارة وبلدانها المختلفة.
على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يعد مصدرا صافيا للغذاء وأكبر منتج للأغذية الزراعية في العالم، كما أنه مقدم رئيس للمساعدات الإنسانية والإنمائية لعديد من البلدان الفقيرة، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء، إلا أن النصف الثاني من العام الماضي كشف عن تحديات جمة في المستقبل المنظور تدفع الأوروبيين إلى إعادة النظر في مصير القطاع الزراعي والغذائي لديهم.
بالطبع توافر الغذاء ليس على المحك في الوقت الحالي في الاتحاد الأوروبي، فالقارة مكتفية ذاتيا إلى حد كبير في عديد من المنتجات الزراعية، مع هذا يلاحظ أن القطاع الزراعي الأوروبي مستورد صاف لمنتجات معينة، على سبيل المثال بروتين الأعلاف وقد أدى الاعتماد على الخارج في هذا المجال الحيوي إلى جانب ارتفاع تكاليف المدخلات الزراعية مثل الأسمدة والطاقة في نشوء تحديات إنتاج غير مسبوقة بالنسبة للمزارعين الأوروبيين، وارتفاع في أسعار المواد الغذائية في الوقت ذاته، ما أوجد ضغوطا اجتماعية وسياسية على عدد من البلدان الأوروبية.
وقال لـ"الاقتصادية" الدكتور إم. آرثر الاستشاري في منظمة الأغذية والزارعة العالمية "الفاو"، "أخيرا بدأ المزارعون في الاتحاد الأوروبي في مواجهة تحديات كثر، بعضها يعود إلى الطقس الحار والجفاف، فصيف 2022 من أكثر أشهر الصيف حرارة في التاريخ المسجل، وقد ضرب الجفاف معظم أرجاء القارة الأوروبية، وأثر ذلك في نمو المحاصيل، فانخفضت الغلال، يضاف لذلك تأثير الحرب الروسية في أوكرانيا على أسعار الطاقة، وتضخم أسعار المواد الغذائية، وحاليا هناك درجة عالية من عدم اليقين بشأن قدرة أوكرانيا على إنتاج وتخزين وتصدير سلعها".
ويرى الدكتور آرثر أن التحدي الأكبر الذي يواجه المزارع الأوروبي يكمن في ضمان استدامة القطاع الزراعي، حيث كشف تقرير حديث للمفوضية الأوروبية أن 96 في المائة من المزارعين الأوربيين يرغبون في زيادة استدامة مزارعهم، ولكن نتيجة الضغوط الخارجية التنافسية ونقص الدعم الحكومي وعدم اليقين بشأن كيفية التغلب على التحديات المتصاعدة خاصة المتعلقة بتأثير تغير المناخ على القطاع الزراعي، فإنهم يشكون في قدرتهم على تحقيق ذلك.
وكان تقرير المفوضية الأوروبية قد كشف أن 97 في المائة من المزارعين الأوروبيين قد أقروا بأن التغيير المناخي يؤثر في الجدوى المالية لمزارعهم، إضافة إلى الزيادة في عدد سكان القارة بدرجة لا تتناسب مع الزيادة في الإنتاج الزراعي، كل هذا يوجد مصاعب لم يعد في قدرة القطاع الزراعي الأوروبي مواجهتها بالأساليب التقليدية.
ما العمل؟ هذا تحديدا السؤال الذي يبحث فيه القادة الأوروبيون حاليا لضمان استمرار وضع أوروبا كقوى زراعية عالمية قادرة على إطعام شعوبها ومساعدة شعوب البلدان الفقيرة.
ويرصد الخبراء عددا من المحاور، التي يعمل عليها الأوروبيون للحفاظ على قطاع زراعي متميز لديهم، ولا شك أن الدور الباهر للتكنولوجيا في ضمان استدامة القطاع الزراعي يعد المدخل الرئيس للاتحاد الأوروبي لضمان تفوقه الزراعي.
وتعد حلول الزراعة الذكية مدخل المزارع الأوروبي إلى قطاع زراعي حديث أكثر إنتاجية وأقل تكلفة على الأمد الطويل، فنحو 88 في المائة من المزارعين في أوروبا يدركون أن التقنيات الرقمية يمكن أن تساعد الزراعة على النجاح في المستقبل، وتخطط الأغلبية العظمى من المزارعين الأوروبيين للاستثمار بشكل أكبر في التقنيات الرقمية مستقبلا.
وبقدر ما توضحه تلك الرغبة الاستثمارية من إدراك المزارع الأوروبي لأهمية التكنولوجيا في القطاع الزراعي، فإنها تضمن أيضا تحقيق القطاع لمعدلات نمو مرتفعة مستقبلا، إذ يضمن الاستخدام الكثيف للتكنولوجيا مجموعة من الإنجازات، التي ستحدد مصير القطاع الزراعي الأوروبي.
وإضافة إلى زيادة الإنتاج، فإن خفض التكلفة يمنح المنتجات الزراعية الأوروبية القدرة على المنافسة في الأسواق الدولية، كما أنها تساعد على خفض معدلات التلوث وتعزيز الإنتاجية والكفاءة لكونها أكثر صداقة للبيئة، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل التغييرات المناخية في القارة الأوروبية.
بدوره، ذكرت لـ"الاقتصادية" الدكتورة هاربر البي أستاذة التكنولوجيا الحديثة في جامعة لندن "التقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات وإنترنت الأشياء والحوسبة المتطورة والـ 5G وسلاسل الكتلة والحوسبة الفائقة تتمتع بإمكانية جعل الزراعة أكثر كفاءة واستدامة وتنافسية".
وأوضحت أن النشاط الزراعي بطبعه يرتبط بأوجه من عدم يقين، فتقلبات الطقس والأسعار والدخل والاعتماد على عقود مؤقتة للعمال الموسميين جزء رئيس من النشاط الزراعي، وهناك تحديات أخرى مرتبطة بشيخوخة القوى العاملة في القطاع، وغياب جاذبيته لدى الشباب، والنقص في العمالة المهارة، ومن ثم، فإن رقمنة القطاع الزراعي يمكن أن تحدث ثورة تامة ليس فقط في طبيعة القوى العاملة أو معدلات الإنتاج أو التكلفة، وإنما في جميع مناحي الإنتاج الزراعي، وبما يضمن لأوروبا مواصلة الإبقاء على وضعها المميز في الإنتاج الزراعي العالمي.
تلك الوضعية المهمة، التي تربط تطور القطاع الزراعي الأوروبي بالتكنولوجيا، تدفع بعض الخبراء إلى التذكير بأن مزيدا من التكنولوجيا لا يكفي في حد ذاته، والأهم من وجهة نظرهم أن تكون في المتناول وميسورة التكلفة لتحقيق أي فائدة ملموسة.
هذا المنطق من التفكير يشير في جوهره إلى أن النية والرغبة واضحة من قبل الأغلبية العظمى من المزارعين في المضي قدما في رقمنة إنتاجهم الزراعي، لكن التطبيق العملي لتلك الأفكار يصطدم في الجزء الأكبر منه بعوائق الاستثمار في المستقبل والتكلفة المرتفعة للتكنولوجيا الزراعية المتطورة.
وكشفت إحدى الدراسات إلى أن نصف المزارعين في جميع أنحاء أوروبا أشاروا إلى ارتفاع تكلفة شراء واستخدام التقنيات الزراعية المتقدمة بصفتها عاملا أساسيا يحد من تحولهم من الأساليب الزراعية التقليدية إلى أساليب الزراعة التكنولوجية الحديثة.
وهذا تحديدا ما يدفع بعض الخبراء وفي مقدمتهم جورج كاميرون نائب رئيس قسم التطوير الزراعي في اتحاد المزارعين البريطانيين إلى التأكيد على أن التدخل الحكومي لدعم المزارعين يعد عنصرا أساسيا لضمان تحول القطاع إلى التقنيات الرقمية.
وبين لـ"الاقتصادية" أنه "عندما يتعلق الأمر بمن يجب أن يقدم الدعم لرقمنة القطاع الزراعي، فإن المزارعين سواء في المملكة المتحدة أو أوروبا أو في أي مكان في العالم سيقولون على الحكومات أن تساعد في هذا التحول، ولا يحتاج المزارعون إلى الدعم المالي فقط من حكومتهم، وإنما يمكنها توفير التدريب لهم، أو المساعدة في أعمال الصيانة وتوفير اتصال أفضل للإنترنت عبر الهواتف المحمولة".
وأضاف "الوقت حان للحكومات للاستفادة من الموقف الإيجابي الحالي بين المزارعين وعزمهم على الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية باعتبارها المفتاح لإنشاء قطاع زراعي مستدام يمكنه التغلب على قضايا التغيير المناخي، فضلا عن إنتاج الغذاء اللازم لإطعام عدد متزايد من سكان أوروبا والعالم".

التفوق الزراعي الأوروبي محل شكوك .. التحول الرقمي يصطدم بالتكلفة وعوائق الاستثمار

أضف تعليق