قيود النمو .. 3 عقبات

بدأت تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بريطانيا منذ فترة ليست بالقصيرة تلقي بظلالها، خاصة التي تهم هموم البريطانيين في حياتهم المعيشية اليومية والاجتماعية. فقد ارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، مع وجود تحديات كبيرة تواجهها الحكومة البريطانية وسط استمرار معدلات التضخم المرتفعة، وتسعى حكومة ريشي سوناك لمعالجة التضخم الذي قد يستغرق فترة طويلة، وسجلت معدلات تضخم هي الأعلى منذ 40 عاما، وهو ما يشكل تهديدا اقتصاديا غير مسبوق، ما انعكس على الحياة المعيشية للمواطنين ودفع العاملين في عشرات القطاعات إلى تنظيم إضرابات غير مسبوقة للمطالبة بأجور تواكب موجة الغلاء وارتفاع الأسعار.
ويرى خبراء أن ما تمر به بريطانيا من أزمات اقتصادية ذات تداعيات اجتماعية واضحة، نتاج لعديد من المعضلات السياسية والاقتصادية، التي مرت بها بريطانيا على مدار الأعوام الستة الماضية، أبرزها الأزمات الثلاث وهي خروجها من الاتحاد الأوروبى "بريكست" وجائحة كورونا والأزمة الاقتصادية العالمية نتيجة الحرب الأوكرانية – الروسية.
ويبدو من هذا المشهد العام أن بريطانيا تواجه أزمات وضغوطا متنوعة على كثير من المستويات وأبرزها الجانب الاقتصادي، خلال الفترة الأخيرة، خاصة منذ بداية هذا العام ونهاية العام الماضي، يتصدرها صعود أسعار السلع الغذائية الأساسية وارتفاع فواتير أنواع الطاقة المستهلكة، التي تزامنت مع الحرب التي اندلعت في أوروبا الشرقية. والمسألة لم تعد نقصا في المواد الاستهلاكية اليومية ولا معاناة المستهلكين في الحصول على إمدادات الفواكه والخضراوات في مشهد لم يعتد عليه المواطن البريطاني منذ عصور مضت، بل القضية تنطوي بداخلها أمور معقدة يصعب معالجتها.
ولا شك في أن الحرب الدائرة في أوكرانيا عمقت مشكلة إنتاج الغذاء في البر البريطاني. فخلال العام الماضي ارتفعت أسعار الطاقة بصورة لم يعد المزارعون البريطانيون يتحملونها، ما خفض من وتيرة الإنتاج. وإن مشكلة الإمدادات المشار إليها، تعود لمجموعة من العوامل، لكن العامل الأهم أن بريطانيا ظلت تعتمد على الواردات طوال العقود الماضية، إلى جانب معايير التغير المناخي والصراعات الجيوسياسية التي ولدت معوقات أمام الإنتاج الزراعي وصادراته.
تقوم الحكومة البريطانية حاليا بالتحرك السريع من أجل تقليل حدة هذه الأزمة، في الوقت الذي تعانيه في كبح جماح التضخم الذي سجل أعلى مستوى له في البلاد. ولا شك في أن مساعي الحكومة لإزالة الحواجز بعد "بريكست" التي تفاقمت بشكل متواصل ستسهم في حل جزء من المشكلة، لكن الأمر يتطلب وقتا لن يكون قصيرا. ونلاحظ أن في بريطانيا سلسلة من الضغوط منذ فترة ليست قصيرة. نقص هذه السلع بات واضحا في كل محال بيع التجزئة، حتى إن هذه المحال فرضت قواعد صارمة تتعلق بعدم بيع أكثر من وحدة للشخص الواحد. وهذا النوع من الإجراءات لا يتخذ عادة إلا في الأزمات والحروب والعوامل الطبيعية الضخمة.
وطلبت شركات بيع التجزئة تدخل الحكومة لحل هذا الأمر المتفاقم، وبالفعل تم عقد سلسلة من الاجتماعات للتوصل إلى صيغة يمكن من خلالها احتواء أزمة النقص في هذه المواد الغذائية الأساسية، بما في ذلك منتجات الدواجن، التي تواجه أيضا نقصا متزايدا على الساحة البريطانية. ويبدو واضحا، أن المسألة لن تحل بسرعة، لمجموعة من الأسباب، في الوقت الذي تستعد فيه الحكومة لإعلان ميزانيتها الأولى الشاملة تحت حكم رئيس الوزراء ريشي سوناك.
تعتمد بريطانيا بشدة على واردات الغذاء، ولم ترفع خلال الأعوام الماضية مستوى الإنتاج المحلي بما يكفل له دورا أساسيا في إمدادات الغذاء عموما، وهذا يشبه إلى حد بعيد كيف أن أوروبا اعتمدت بقوة على الطاقة الآتية من روسيا، لتواجه فترة من أخطر الفترات على صعيد الإمدادات مع بدء الحرب في أوكرانيا. لكن وجود المملكة المتحدة عضوا في الاتحاد الأوروبي، وفر ضمانات للمواد الغذائية المشار إليها، ولا سيما في ظل سوق واحدة.
ومع انسحاب البلاد من التكتل الأوروبي، أحدث مشكلات متزايدة لسلاسل التوريد، مع إقامة الحدود في وجه حركة التجارة بين ضفتي القناة الإنجليزية، وفق قوانين "بريكست". هذا الجانب أسهم بالفعل في نقص المواد الآتية من أوروبا في المرحلة الماضية. فالشاحنة المحملة بالمواد التي كانت تمر عبر الحدود دون توقف، لا بد أن تطبق عليها إجراءات تحتاج لساعات وأحيانا أكثر.
لكن ليس هذا هو السبب الوحيد لنقص الخضراوات والفواكه في البر البريطاني، هناك أيضا عوامل المناخ والطبيعة والبيئة المتغيرة، التي أسهمت في تراجع الإنتاج الزراعي حتى في البر الأوروبي، وعدد من الدول الإفريقية كـ(المغرب) الذي تستورد بريطانيا منه نسبة لا بأس بها من احتياجاتها الزراعية. تراجع الإنتاج الزراعي هذا فرض قيودا على المنتجين، عبر وضع أولويات أمامهم للجهات التي تستورد منتجاتهم. فالمنتج الإسباني مثلا له الأولوية لدول الاتحاد وليس لبريطانيا.
كل هذا يجري، في الوقت الذي تحاول فيه بريطانيا التوجه إلى أسواق أخرى عبر سلسلة من الاتفاقات التجارية، لكن الأمر ليس سهلا هكذا، خصوصا عندما يتعلق بسلع غذائية لها مدة زمنية قصيرة للصلاحية. من هنا، ينظر لمسألة نقص الفواكه والخضراوات وبعض منتجات الدواجن في المملكة المتحدة، بعيون قلقة، ما دفع اتحاد المزارعين الوطني البريطاني لتوصيف المشكلة على أنها بمنزلة "قمة جبل جليد".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي