«روبيني» والتهديدات الاقتصادية الكبرى

التحذيرات المخيفة للاقتصادي المعروف نورييل روبيني، الكاتب في صحيفة "الاقتصادية"، المعروف بأستاذ التشاؤم، تستند إلى حقائق وتطورات واقعية وليست مجرد تشنجات إنسان متشائم، كما يظن البعض. حقيقة الأمر أن الطبيعة البشرية لا تمانع من الاستماع إلى الأخبار السيئة إن كانت خاصة بالآخرين، وتكره سماعها إن كانت موجهة إليهم ولها تأثير فيهم.
عندما يقول روبيني "إن أمامنا أياما سوداء، وإن أزمة (أم الديون) قادمة، وإنه لا يثق بقدرات متخذي القرار في البنوك المركزية"، وإنه يرى صراعات مدمرة بين الصين والغرب، فهو قد يبالغ كثيرا، إلا أنه يقدم تبريرات منطقية مبنية على بيانات اقتصادية حقيقية، وفي بعض الأحيان لا شك أنه يطرح آراء شخصية، كتوقعه حدوث ضربة نووية موجهة من روسيا إلى مدينة نيويورك التي يسكنها.
صدر كتاب جديد للاقتصادي روبيني، وهو المعروف بتنبؤاته الصحيحة بالأزمة المالية 2008، يتحدث فيه عن جملة من التهديدات ستواجه العالم في الأعوام المقبلة، لذا من المهم، على أقل تقدير، الاطلاع عليها والاحتياط منها، وليس بالضرورة الاقتناع بحدوثها أو التطير منها.
بخصوص التقلبات المناخية وتأثيراتها المحتملة في الإنسان والاقتصاد، فهو يعتقد أن الحلول المطروحة للسيطرة على التغيرات المناخية، من أساليب أرصدة الكربون والتشريعات المناخية، غير كافية وغير عملية ومكلفة جدا، إلى جانب أنه يتنبأ بأوبئة وجوائح مدمرة ستكون مكلفة جدا ومن الصعب السيطرة عليها.
روبيني يرى أن العولمة الاقتصادية في تراجع كبير، ويشير إلى خطأ الغرب في الانفتاح على الصين وتحرير التجارة العالمية، في أن ذلك أيقظ العملاق الشيوعي من سباته وأقوى شوكته بشكل هدد الاقتصادات الغربية، ورفع من احتمالات حدوث حروب اقتصادية قد ترتقي إلى حروب عسكرية. لذا نرى اليوم التوجه نحو الحمائية الاقتصادية، حيث تحاول كل دولة حماية اقتصاداتها الداخلية بفرض الرسوم على المنتجات الخارجية وتقديم الحوافز لاستعادة الصناعات المهاجرة إلى الخارج.
أستاذ التشاؤم يرى أننا مقبلون على ركود تضخمي يفوق ما حدث في السبعينيات الميلادية الماضية في حدته وامتداد فترته، والسبب أن التضخم الناتج عن اختلالات في جانب العرض مدمر بشكل أكبر من التضخم الناتج عن ارتفاع الطلب، وأنه يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الركود التضخمي. فالتضخم بسبب ارتفاع الطلب يمكن السيطرة عليه إلى حد كبير من خلال السياسة النقدية التقشفية، أما اختلالات العرض فهي تتطلب سياسات مالية ونقدية جديدة ومختلفة. في هذا السياق يشير روبيني إلى أنه في الولايات المتحدة في الأعوام الـ60 الماضية، متى كان هناك تضخم بأكثر من 5 في المائة ونسبة بطالة أقل من 5 في المائة، فإن أي تدخل من قبل "الفيدرالي" لخفض التضخم إلى قرب 2 في المائة دوما، يؤدي إلى ركود اقتصادي.
التضخم سيستمر بسبب اختلالات العرض التي يعتقد روبيني أنها ستستمر بسبب تغير السياسات الاقتصادية في الغرب وجنوحها نحو الحمائية وتجنب العولمة المفرطة، ما يؤدي إلى إحداث أضرار في التجارة الدولية وحركة السلع والحد من الوصول إلى الأيدي العاملة الرخيصة. كذلك من غير المؤكد استمرار عملة الدولار في سيطرتها على الساحة الدولية، في ظل وجود عملات أخرى منافسة، ومتى انخفض الدولار مستقبلا فإن ذلك سيؤدي إلى مزيد من التضخم في الولايات المتحدة، وتفاقم حالة الركود التضخمي.
يقدم روبيني جملة من العوامل المؤثرة في جانب العرض، تشمل التغيرات المناخية في مسؤوليتها عن الجفاف والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة، وتأثير ذلك في وفرة الغذاء وأسعاره. هناك كذلك مخاطر الاختراقات السيبرانية وتأثيراتها في الأنشطة التجارية وأمن الإنسان وسلامته، وبالتالي ستكون هناك تكاليف اقتصادية للسيطرة على ذلك.
ربما أهم المحاذير التي يشير إليها روبيني هي مشكلة تراكم الديون العامة والخاصة في العقود القليلة الماضية، فهو يرى أن التحديات الاقتصادية والمالية السابقة، مثل الركود التضخمي في السبعينيات والأزمة المالية 2008 وغيرها، تم التغلب عليها بسبب التدني النسبي لحجم الديون في تلك الأوقات. أما الآن فنسب الديون مرتفعة لدرجة أن أي محاولة لسحب السيولة من الأسواق ستعقد من الأدوار الحكومية التي تعتمد في ميزانياتها على الاقتراض.
التحذيرات التي أطلقها روبيني تشير إلى مزيد من اتساع الفجوة بين الأثرياء وعامة الناس، وترفع من حدة عدم المساواة. وهو يعتقد أن العالم مقبل على عقود من الزمن أقرب في طبيعتها الاقتصادية والسياسية إلى العقود الثلاثة الأولى من القرن الـ20، وأبعد في جودتها ورفاهيتها عن العقود الأربعة التالية للحرب العالمية الثانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي