تقارير و تحليلات

الاقتصاد الكوري «معجزة على نهر الهان» بعد أعوام العسرة .. «تصنيع الأفكار» فلسفة الانطلاق

الاقتصاد الكوري «معجزة على نهر الهان» بعد أعوام العسرة .. «تصنيع الأفكار» فلسفة الانطلاق

كثافة البحث والتطوير ساعدت كوريا على أن تصبح رائدة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات.

في عام 1961 وفي خطابه بمناسبة العام الجديد، وقف تشانج ميون رئيس وزراء كوريا الجنوبية، ليخطب في شعبه محفزا أبناء وطنه على تحمل الصعاب لتحقيق الانتعاش الاقتصادي. في هذا الخطاب، وعلى غرار التعبير الشائع حينها في الإعلام الدولي لوصف النهضة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية بـ"معجزة على نهر الراين"، أطلق تشانج ميون شعار "معجزة على نهر الهان"، ونهر الهان نهر رئيس في كوريا الجنوبية ورابع أنهار شبه الجزيرة الكورية طولا. وعلى الرغم من أن النهر لا يعد من الأنهار الطويلة، إذ يقل طوله عن 500 كيلومتر قليلا، فقد لعب دورا مهما في التاريخ الكوري.
وبالفعل، وفي غضون 60 عاما ونيف من خطاب تشانج ميون، كان العالم يقر بولادة "معجزة على نهر الهان"، إذ بدت كوريا الجنوبية كطائر العنقاء يخرج من نار الحرب الكورية التي استمرت ثلاثة أعوام، وأسفرت عن تدمير بنية اقتصادية متهالكة نتيجة أعوام الاحتلال الياباني، وعجز كبير في الموارد ورأس المال.
يفتخر الشطر الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية، بأنه شهد أكبر نمو اقتصادي في العالم في أقصر فترة في التاريخ، فمنذ عام 1960 إلى اليوم نما اقتصاد كوريا الجنوبية بنحو 1500 في المائة، وبعد أن كانت كوريا الجنوبية بين أفقر دول العالم، حيث كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي قبل ستينيات القرن الماضي لا يتجاوز 79 دولارا أمريكيا فقط، فإن متوسط دخل الفرد حاليا نحو 27500 دولار أمريكي، وفق تقديرات العام الماضي. وبعد أن كان الاقتصاد الكوري الجنوبي يعتمد على المعونات الخارجية ويحتل مرتبة لا تذكر في الترتيب العالمي لاقتصادات الدول، ها هو اليوم يحتل المرتبة العاشرة بين أكبر الاقتصادات في العالم، والرابع في آسيا بإجمالي ناتج محلي سيتجاوز 1.9 تريليون دولار هذا العام.
إذن، هو صعود صاروخي، لواحدة من أفقر دول العالم في خمسينيات القرن الماضي إلى إحدى أغنى دول العالم اليوم، وكل هذا النجاح في حياة جيل واحد، باتت معه كوريا الجنوبية رائدة في التصنيع والابتكار والتكنولوجيا مع امتلاكها علامات تجارية عالمية، مثل سامسونج، تتنافس وجها لوجه مع "أبل" درة تاج التكنولوجيا الأمريكية.
لكن في الحقيقة، فإن "معجزة نهر الهان" قد تتجاوز الآن تلك الإنجازات الاقتصادية على أهميتها، فمن أغنية "جانجام ستايل" بإيقاعها المرح والمنعش عام 2012، التي كانت أول أغنية في التاريخ يشاهدها مليار شخص على موقع يويتوب، إلى الدراما التلفزيونية التي جذبت أنظار العالم، وأعني مسلسل "لعبة الحبار"، إلى الفوز بجائزة الأوسكار عن فيلم Parasite، وحاليا فرق غنائية شبابية تتصدر القوائم الغنائية على المستوى الدولي، وبذلك تخرج المعجزة الكورية من بوتقة الاقتصاد لتكتسب أرضية جديدة على المستوى العالمي، بل إن "معجزة نهر الهان" يمتد تأثيرها الثقافي اليوم إلى الهند التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة مقارنة بكوريا الجنوبية ذات الـ50 مليون نسمة، حيث تعد اللغة الكورية الأسرع نموا ويتم تدريسها في المدارس الثانوية الهندية.
وهنا تشير لـ «الاقتصادية» آنا فيليب أستاذة التاريخ الاقتصادي في جامعة جلاسكو، إلى أنه قبل ستينيات القرن الماضي كان الاقتصاد الكوري الجنوبي، ونتيجة أعوام طويلة من الاحتلال الياباني الذي امتد من 1910 - 1945، يعاني كثيرا من المشكلات، من بينها ارتفاع معدلات البطالة التي بلغت 40 في المائة من السكان، إضافة إلى الفقر المدقع.
وقالت فيليب، "كان لدى كوريا الجنوبية اقتصاد زراعي متخلف يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية، لكن القيادة التي ظهرت في أوائل الستينيات وقادت البلاد لمدة 25 عاما، وبصرف النظر عن تصلبها في إدارة الدولة، كان لديها التزام عملي ومرن بالتنمية الاقتصادية. وخلال العقود الثلاثة التالية نما الاقتصاد الكوري الجنوبي بمتوسط معدل سنوي يقارب 9 في المائة، وزاد دخل الفرد بأكثر من 100 ضعف، وتم تحويل كوريا الجنوبية إلى قوة صناعية ذات قوة عمل عالية المهارة.
ومنذ الستينيات وصاعدا، بدأت كوريا الجنوبية بالتركيز على فلسفة التصنيع من أجل التصدير، مستفيدة من انخفاض أجور الأيدي العاملة وزيادة التوظيف في الأجل القصير، ونجم عن ذلك نمو الناتج المحلي الإجمالي بسرعة، وبين عام 1963 - 1969 نما الاقتصاد 35 في المائة تقريبا بفضل تشغيل الموارد غير المستغلة، مثل العمالة العاطلة.
مع هذا يعد البروفيسور إل. إم. دنيال الاستشاري السابق في الأمم المتحدة، أنه يصعب رصد عامل واحد يقف وراء "معجزة نهر الهان"، إنما هناك مجموعة متشابكة من العوامل.
وذكر لـ «الاقتصادية»، أنه "يمكن أن نرجع النجاح الكوري إلى الحرية الاقتصادية الخاصة، حيث يتمتع الأشخاص بقدر كبير من الحرية لبدء أعمالهم التجارية الخاصة، ولديهم عدد غير قليل من خيارات التجارة الخارجية، واللوائح الحكومية تدعم تلك الحرية الاقتصادية، لكن في الوقت ذاته ينص الدستور على تصحيح الوضع غير العادل إذا تبين أن إساءة استخدام رأس المال تسبب أضرارا للناس، وهذا بمنزلة آلية لتحسين أداء اقتصاد السوق الحرة، وتحتل كوريا الجنوبية الآن المرتبة الـ24 بين أكثر الاقتصادات حرية في العالم".
ويرى البروفيسور دنيال أن الحرية الاقتصادية دعمت بنمو اقتصادي متأثر بفلسفة التصدير للخارج، فقد مضت الدولة في الستينيات قدما عبر خطط التنمية الاقتصادية الموجهة للتصدير، وكانت عناصر التصدير الرئيسة في كوريا الجنوبية في ذلك الوقت منتجات صناعية خفيفة تصنع في مصانع صغيرة. وفي السبعينيات، استثمرت البلاد في منشآت كيماوية ثقيلة وأرست الأساس لتصدير المنتجات الصناعية الثقيلة، والآن يقود قطاع أشباه الموصلات العرض. لكن كوريا الجنوبية ليست دولة مدفوعة بالتصدير فقط، لكنها تستورد أيضا البضائع من الصين والولايات المتحدة واليابان، و70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية يعتمد على التجارة العالمية، ويتوقع أن تزداد تلك النسبة في الأعوام المقبلة، وحاليا تحتل كوريا المرتبة السابعة كأكبر مصدر في العالم، وتاسع أكبر مستورد على المستوى الدولي، ومن ثم يعني هذا أن الإنتاجية والطلب يتزايدان في الاقتصاد الكوري الجنوبي في وقت واحد، ومن هذا المنطلق سيكون لديها نمو اقتصادي على المدى الطويل.
باختصار، نجحت كوريا الجنوبية في إنشاء هيكل اقتصادي موجه للتصدير يركز على الشركات الكبيرة مع السعي إلى تحقيق النمو في مواجهة نقص رأس المال والموارد، وأدى ذلك إلى سيطرة التكتلات الصناعية الكبيرة، ما جعل الهيكل الاقتصادي يعتمد بشكل كبير على التجارة الخارجية وتطورات الاقتصاد العالمي.
من أبرز العوامل التي ساعدت تجربة كوريا الجنوبية على المضي قدما في طريق النجاح من أعوام العسرة في الخمسينيات والستينيات في القرن الماضي إلى أعوام اليسرة حاليا، التطور الحادث في قدرات القوة العاملة في البلاد، فقد أصبحت القوة العاملة الكورية أكثر إنتاجية، حيث يستمر الإنتاج مقاسا بالساعة في الزيادة بمرور الوقت، فوفقا للأرقام الرسمية كان متوسط إنتاجية العمل لكل ساعة نحو 32 دولارا أمريكيا عام 2010، واعتبارا من عام 2020 زاد متوسط إنتاجية العمل لكل ساعة إلى نحو 42 دولارا.
مع هذا، يشير جرهام ويل الباحث في الشأن الآسيوي، إلى أن تجربة كوريا الجنوبية لم يكن لها أن تحقق ما حققته دون التركيز على محورين رئيسين، وهما التعليم والتكنولوجيا.
وبالفعل، فعندما انضمت كوريا إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 1996 كانت تتمتع بالفعل بأكثر من ثلاثة عقود من النمو المتميز، على أساس اقتصاد موجه للتصدير يخدمه قوة عاملة متعلمة ومدربة ومعدلات استثمار وادخار مرتفعة، مع ذلك كان الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية أقل بنحو 30 في المائة من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عندما نالت العضوية، لكنها نفذت سلسلة من الإصلاحات الرئيسة زادت بفضلها من اندماجها في الاقتصاد العالمي وعززت موقعها فيه، كما حققت قفزت في المجال التعليمي والقدرة الابتكارية والتكنولوجية.
ويوضح ويل لـ «الاقتصادية»، أن "شيخوخة السكان السريعة في كوريا الجنوبية تتطلب تعبئة أفضل لموارد العمل، ولا سيما من النساء والشباب الذين يتمتعون بمستوى تعليمي عال، فقد حطمت كوريا الجنوبية العام الماضي سجلها الخاص لأدنى معدل خصوبة في العالم، ومن المتوقع أن ينخفض عدد سكانها إلى النصف بحلول نهاية القرن، ولذلك فمستوى مرتفع من التعليم يعد ركيزة أساسية لضمان استمرار المعجزة الكورية، وحاليا تمتلك أعلى نسبة من خريجي الجامعات في العالم المتقدم".
واستدرك، "لكن نظام التعليم، وعلى الرغم من تطوره، يواجه حاليا صعوبات تدفع الحكومة إلى التركيز على إصلاح جوانب الخلل الراهن، فكوريا الجنوبية تحصل على أقل عائد إنتاجي للعمل من الإنفاق على التعليم بين الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فهي تنفق 40 في المائة أكثر على الطالب المراهق مقارنة بأيرلندا، لكنها تحصل على 60 في المائة أقل في الناتج المحلي الإجمالي لكل موظف".
مع هذا، يوجد ما يشبه الاتفاق بين الخبراء بأن العمود الفقري لـ"معجزة نهر الهان" يكمن وبلا جدال في الاهتمام بالابتكار والتكنولوجيا، ليس فقط كوسيلة إنتاجية، بل كمفهوم أصيل وضامن لنجاح التجربة الاقتصادية، وربما تبدو تلك القناعات في محلها عند رؤية العلاقة الاقتصادية والمجتمعية بين تبني المجتمع الكوري للمفاهيم الابتكارية والتكنولوجية في الوقت الراهن، وما كان عليه الوضع في خمسينيات القرن الماضي.
فكوريا الجنوبية تعد الآن واحدة من أكثر دول العالم ابتكارا، وتأتي في المرتبة الثانية بعد ألمانيا وفقا لمؤشر بلومبيرج للابتكار عام 2020 بعد أن احتلت صدارة قائمة 60 دولة خلال الأعوام الخمسة الماضية. وفي مؤشر الابتكار العلمي الذي نشرته جامعة كورنيل عام 2019، احتلت كوريا الجنوبية المرتبة 11 وألمانيا المرتبة التاسعة بين 129 دولة تم تصنيفها.
بدوره، ذكر لـ «الاقتصادية» المهندس إس. دايتون من قسم أبحاث الاتصالات في شركة بي تي، أن "كثافة البحث والتطوير العالية التي ساعدت كوريا الجنوبية على أن تصبح رائدة عالميا في مجال تقنية المعلومات والاتصالات، نشأت من نظام ابتكار يعزز التعاون الوثيق بين الحكومة والصناعة والمجتمع الأكاديمي، وكان الدعم القوي للبحث والتطوير محوريا في الخطة الخمسية الأولى للتنمية الاقتصادية عام 1962".
ودفعت الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 عديدا من الشركات الكورية الكبيرة إلى التحول من الاعتماد على الصادرات ذات القيمة المضافة المنخفضة التي تميز بها اقتصاد "النمور الآسيوية" إلى المنتجات والخدمات التي تعتمد على المعرفة والتكنولوجيا المتطورة، مثل أشباه الموصلات والهواتف المحمولة، ومن خلال التعاون بين الحكومة والشركات الكبرى تم تطوير مراكز ابتكار إقليمية، مثل منطقة جيونجي التي تضم ما يقرب من 13 مليون شخص بالقرب من العاصمة سيئول، التي تعد الآن القوة الاقتصادية والابتكارية في البلاد.
ويرى المهندس دايتون أن العامل الحاسم في إيجاد اقتصاد مبتكر وحديث في كوريا الجنوبية يعود إلى "تحويل الأفكار من المختبرات إلى منتجات وصناعات"، وتعزيز ذلك بتوليفة تربط الاقتصاد الكلي بالاقتصاد العالمي عبر التجارة الخارجية مدعومة بنظام تعليمي حديث، يسهم في ترسيخ المفاهيم الابتكارية والتكنولوجيا في المجتمع.
وتنفق كوريا الجنوبية الآن حصة ملحوظة من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، وأعلنت الحكومة أنها ستستثمر 19.2 مليار دولار في جهود البحث والتطوير في البلاد العام المقبل بزيادة 1.7 في المائة على أساس سنوي.
وفي عصر مواقع التواصل الاجتماعي والعوالم الافتراضية تتصارع طموحات الفئات الشابة في كوريا الجنوبية بين الرغبة في حراك اجتماعي سريع من جانب والحقائق الصعبة للحياة اليومية بتحدياتها الاقتصادية المركبة من جانب آخر، وهذا تحديدا ما يدفع بالخبراء إلى الاعتقاد بأن كوريا الجنوبية تدخل بطريقتها الخاصة إلى عقد اجتماعي جديد يهدف إلى تعزيز الرقمنة وتخضير الاقتصاد وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، لتمتلك القدرة على فتح حقبة جديدة من النمو، تستخدم فيها إمكاناتها التكنولوجية والبشرية لحل التناقضات المجتمعية لتضمن بذلك استمرار "معجزة نهر الهان".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات