Author

تضخم الذات المؤسسي

|
سبق أن كتبت عن التضخم الذاتي الذي يعانيه بعض الأفراد نتيجة مؤهل، أو مال، أو منصب حصل عليه فرد من الأفراد، حتى تتحول هذه الحالة النفسية إلى عامل مؤثر بصورة سلبية في تصرفات الفرد لتكون النتيجة النهائية تدمير الشركة، أو الإدارة التي يرأسها، بفعل المغامرات التي يقدم عليها، دونما روية، وتفكير عميق، واستشارة زملائه في العمل.
بمتابعة الأحداث العالمية، ليس فقط ما يحدث الآن، لكن عبر الأعوام الماضية، تساءلت: هل يوجد ما يمكن تسميته بالذات الجمعية، أو بعبارة أخرى ذات الأمة؟ بلا شك يوجد، وهذا يتمثل في هوية الأمة العامة، وقد يتساءل بعضهم كيف تسهم الهوية في إحداث التضخم الذاتي؟ الهوية العامة لأي أمة تمثل الإطار الذي من خلاله، وبه تتم تنشئة أفراد المجتمع بالبيت، والمدرسة، وقنوات بث الثقافة العامة كوسائل الإعلام، والأفلام والمسرحيات، وتشكيل الشخصية وبناء مقوماتها بما يفرز سمات وخصائص وأسلوبا وطريقة تفكير الأفراد لتتناغم مع مضمون وركائز الهوية.
العناصر التي تتكون منها الهوية تتمثل في تاريخ الأمة منذ نشأتها، وآدابها، وثقافتها، ودينها، ومنتجاتها المادية، كالمخترعات والصنائع، وكل أنماط الحضارة والتمدن ونمط العيش، إضافة إلى المنتجات المعنوية والمعرفية، مثل النظريات والقوانين والأنظمة، وبرامج التنمية الاجتماعية، وطرائق التأثير، كما في الإعلام بكل أدواته القديمة والحديثة، وما من شك أن الأمم تتمايز في هذه المنتجات وتأثيرها وتمددها في أنحاء العالم، أو انحسارها في رقعة جغرافية محدودة، ما يجعل عناصر الهوية تسهم في تشكيل الأنا، إما بصورة بسيطة متواضعة، وإما بصورة متعالية تصل إلى حد التضخم الفج الذي يوشك على الانفجار، ليس في وجه صاحبه، وإنما يطول أثره الآخرين.
تضخم الذات المجتمعي يمكن رصده، والتعرف عليه من الدراسة الموثقة التحليلية لتصرفات وأفعال وعلاقات المؤسسة التنفيذية القائمة على الأمر في مجتمع من المجتمعات باعتبارها ممثلا للمجتمع جاءت من رحمه وباختياره ورضاه. وقد حدثنا القرآن الكريم عن الأمم السابقة التي أعرضت عن الحق وتجبرت وعاندت كما في قوله تعالى: «وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا».
العلاقات بين الأمم في الأصل يجب أن تكون مبنية على التعارف، وتبادل المنافع بين الأمم والشعوب مع الاحترام والتقدير لكل طرف في ثقافته، ولغته، ودينه، وكل عاداته وتقاليده، إلا أن تضخم الذات الناجم عن النجاح الذي يحققه طرف في مجال أو أكثر من مجال، خاصة اكتساب القوة الاقتصادية، وقوة السلاح تقوده إلى التصرف مع الآخرين بعلوية وتكبر لا حدود لهما، وهذا ما حدث في تاريخ الأمم الغابرة، كما في القصص القرآني، حين تعاملت الأمم مع أنبيائهم بالنبذ، والطرد، والتهميش، والمحاصرة الاقتصادية حد التجويع.
في العصر الحاضر، وتحديدا بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بزغ نجم الولايات المتحدة كأحد اللاعبين الأساسيين في الساحة الدولية، بجانب الاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا، لرسم سياسات العالم الحديث إلا أن التفوق الأمريكي في المجال الاقتصادي، والتقني، والسلاح مكنها من سحب البساط من تحت الآخرين، وبالأخص بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لتظهر سمات وخصائص تضخم الذات في التعامل مع الآخرين، سواء من خلال الأمم المتحدة وهيئاتها المتنوعة، كمجلس الأمن والجمعية العامة وصندوق النقد والبنك الدوليين واليونيسكو، حيث سحبت عضويتها منها عدة مرات، عقابا للمجموعة الدولية على معارضتها سياسات الهيمنة الأمريكية.
تضخم الذات الأمريكي تبرز ملامحه من خلال توجيه الاتهامات للآخرين وتهديدهم وإصدار قوانين العقوبات، وتصنيفهم في قائمة مخالفي حقوق الإنسان، والتنكر للعلاقات التاريخية، وشن الحملات الإعلامية للنيل من الآخر وتشويه صورته لثنيه عن التصرف باستقلالية، والسير وفق ما تراه المؤسسات الرسمية في أمريكا، وما يخدم مصالحها فقط، بل إن شن الحروب وتغيير الأنظمة والعدوان تمثل سمة خاصة لأمريكا.
في وضع عالمي مضطرب ومعقد ومتشابك المصالح ما أحوج العرب والمسلمين إلى بذل مزيد من الدراسات والبحوث الكاشفة لتاريخ الآخرين، وثقافاتهم، وعوامل التأثير في قراراتهم، إضافة إلى تحليل الشخصية العامة وبالذات المؤثرين في سن القوانين وصناعة القرار.
إنشرها