استثمار الأبحاث الابتكارية صناعيا
العملية التنموية لأي دولة لا تكتمل أو لا يمكن استدامتها إلا في حالة تفعيلها منظومة البحث العلمي والابتكار، اللذين يعدان من أهم العناصر الضرورية والمحورية في دفع أي مسيرة تنموية، سواء كانت اقتصادية أو صناعية في أي من المجتمعات على مختلف أطيافها، مع ضرورة تكاملها مع بعضها بعضا، وفقا للاحتياجات الفعلية القائمة والملموسة لهذه الدول، ولأهمية هذا الموضوع سيكون حديثي في هذا المقال عن أهمية الأبحاث العلمية الابتكارية وضرورة ربطها وتكاملها مع القطاع الصناعي، وسيكون من ثمار ذلك تعزيز القدرات المختلفة سواء كانت اقتصادية أو دفاعية من خلال الاستثمار في ذلك الاستثمار الأمثل.
يمكن للأبحاث العلمية الابتكارية أن تكون ذات جدوى وقيمة فاعلة فقط من خلال وجود تطبيقات عملية لها، وإلا سيكون وجودها دون فائدة، ولعل الأمثلة على ذلك في واقعنا اليوم من خلال الابتكارات النوعية المتعددة وهي أكبر دليل على ذلك، لكني سأستشهد بمثال واحد فقط يبين أهمية ذلك، وهو ابتكار الدوائر المتكاملة Integrated Circuits: ICs، الذي كان في أوائل الستينيات وسجلت فيه براءات اختراع لكل من جاك كيلبي Jack Kilby الذي كان يعمل في شركة Texas Instruments، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء في 2000، وروبرت نويس Robert Noyce الذي كان يعمل في شركة Fairchild Semiconductor، حيث تكمن الفكرة في ذلك وبشكل مختصر، في بناء وتصميم دائرة كهربائية إلكترونية من خلال تكامل مكوناتها المختلفة التي تشمل على سبيل المثال، ما يعرف بالمكثفات والمقاومات والترانزستورات الإلكترونية وغيرها، حيث يتم هذا التجميع على رقاقة أو شريحة شبه موصلة مكونة من مواد كيميائية مثل مادة السيليكون أو مادة الجرمانيوم في حجم لا يتجاوز ملليمترات فقط، وكانت الحاجة إلى هذا الابتكار في ذلك الوقت في تطبيقات ذات تقنيات إلكترونية مختلفة مثل الحواسب الآلية، حيث يمكنها العمل بسرعة فائقة وبأكثر دقة ولا تتأثر بالزمن، وأرخص من ناحية التكاليف في عملية التصنيع والإنتاج، وتم تطوير هذا الابتكار على عدة مراحل وتصنيفها على حسب المكونات الإلكترونية، حيث يعد النوع الأول تحت ما يسمى التكامل على نطاق صغير Small Scale Integration: SSI، وتكون عدد المكونات الإلكترونية فيه لا يتجاوز الـ100، والنوع الثاني يسمى التكامل على نطاق متوسط Medium Scale Integration: MSI لا يتجاوز عدد المكونات الإلكترونية فيه الـ500، والنوع الثالث يسمى التكامل على نطاق واسع Large Scale Integration: LSI، ويكون عدد المكونات الإلكترونية فيه بين الـ500 والـ300 ألف، والنوع الرابع يسمى التكامل على نطاق كبير جدا Very Large Scale Integration: VLSI، وفيه يتجاوز عدد المكونات الإلكترونية الـ300 ألف مكون، والنوع الخامس يسمى التكامل على نطاق فائق السعة Very Very Large ،Scale Integration: VVLSI وهذا النوع يتجاوز عدد المكونات الإلكترونية فيه مليون ونصف المليون مكون إلكتروني، والجدير بالذكر أن هذا الابتكار كان لتطبيقاته المختلفة أثر كبير في عالم الإلكترونيات والتقنيات عموما، بل أحدث نقلة نوعية في مجال الصناعة، حيث نجد تعدد التطبيقات والاستخدامات لها في كثير من الأجهزة سواء المدنية بدءا من الهواتف وأجهزة الكمبيوتر بمختلف أنواعها والأجهزة المنزلية وغيرها، ونجدها كذلك في عديد من التقنيات والأجهزة والاتصالات الدفاعية العسكرية على اختلاف أنواعها، ولولا هذه التطبيقات المهمة لم يكن لهذا الابتكار أي معنى أو فائدة.
لذا أرى أن العلاقة بين البحث العلمي والصناعات التطويرية علاقة استراتيجية مهمة جدا، ولا بد من ربط تكاملي بين الأبحاث الابتكارية مع المتطلبات التطبيقية والاحتياجات الفعلية والضرورية ذات القيمة والجدوى المدروسة، ويكون عن طريق منصة وطنية تحدثت عنها مسبقا في مقال سابق تحت عنوان "مسارات ابتكارية لأنظمة دفاعية متطورة"، وذلك يكون بين الجهات المعنية وفي مقدمتها، الجامعات، كون البحث العلمي يعد من أهم وظائفها الأساسية بعد التعليم الأكاديمي، والمراكز والهيئات المعنية بالبحث والتطوير، مع القطاع الصناعي التطويري الإنتاجي، المتمثل في بعض الهيئات، ومنها الهيئة العامة للصناعات العسكرية General Authority for Military Industries: GAMI، والهيئة العامة للتطوير الدفاعي General Authority for Defense Development: GAD، والمدن الصناعية "مدن" والشركات الصناعية مثل شركة الصناعات العسكرية Saudi Arabian Military Industries: SAMI وغيرها، حتى لا يكون دور الجهات البحثية والتطويرية مجرد البحث والتطوير للوصول إلى نماذج أولية أو نشر أوراق بحثية في مؤتمرات ومجلات دولية، أو ابتكارات مسجلة في هيئات الملكية الفكرية فقط، وإنما تكون هناك مسارات وعلاقة تكاملية مع القطاعات التصنيعية للإنتاج والتسويق كذلك، وبالتالي نستطيع من خلال هذه العلاقة صنع منتجات محلية وطنية تنافسية ذات مردود استثمار اقتصادي ودفاعي واعد ومعزز لموقعنا بين مصاف كبار الدول في العالم.