Author

صناعة «الأمن القومي»

|

أصبحت أشباه الموصلات الآن محور الاهتمام السياسي والاقتصادي والصناعي على حد سواء على مستوى العالم، ومع تحول الرقائق الإلكترونية إلى أسلحة سياسية في الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، أصبح المركز محط أنظار الحكومات بشكل متزايد. في غضون ذلك، أدى نقص الإنتاج المعوق للصناعة خلال فترة الوباء إلى تسابق عديد من الدول للوصول إلى الأبحاث المتقدمة، حيث تسعى الولايات المتحدة والصين واليابان وأوروبا، جميعها، إلى زيادة الاعتماد على الذات في مجال إنتاج أشباه الموصلات.
ويعد تصنيع أشباه الموصلات المركبة أحد المجالات التي ستحظى بالاهتمام في المستقبل، حيث تعمل الصين على حشد التمويل لتطوير ما تطلق عليه "رقائق الجيل الثالث"، المصنوعة من مواد مركبة مثل نيتريد الغاليوم، في محاولة لإحراز ريادة، دون الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية القائمة على السيليكون. وتعد الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات عنصرا مهما في صناعة احتياجات متنوعة، منها الأجهزة الإلكترونية التقليدية، الهواتف المحمولة، والكمبيوتر، كما تدخل في صناعة السيارات والطائرات، حتى شبكات الجيل الخامس. في ضوء ذلك يزيد الطلب على أشباه الموصلات بنسب كبيرة بشكل سنوي. فبعد أزمة كورونا، أدت الحرب بين أوكرانيا وروسيا إلى زيادة الطلب على تلك الصناعة، ما أدى إلى ظهور المصانع والمبادرات الداعمة لإنتاجها. بدورها تعمل تايوان، سنغافورة، كوريا الجنوبية، واليابان على توسيع قواعدها في هذه السوق، مع توريد كمية أكبر من أشباه الموصلات.
تعمل الصين على زيادة حصتها في مجال تصنيع أشباه الموصلات ومضاعفة قدرتها الإنتاجية في إطار استراتيجيتها للوصول إلى هيكلية جديدة، تعزز مكانة الصين وترفع حصتها في السوق خلال الفترة المقبلة. وفقا للدراسات، تخطط الصين لإنفاق 150 مليار دولار على أشباه الموصلات، تليها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع نحو 50 مليار دولار ثم الهند فاليابان.
وفي خضم هذه الأجواء يشهد العالم ارتفاعا ملحوظا على طلب الرقائق الإلكترونية، ما أدى إلى ارتفاع المبيعات في مختلف الدول، حيث بلغت قيمة مبيعات صناعة أشباه الموصلات العالمية 50.9 مليار دولار في نيسان (أبريل) الماضي، لتحقق بذلك زيادة نسبتها 21.1 في المائة مقارنة بـ2021، حيث وصلت إلى 42 مليار دولار. في ظل نقص العرض وارتفاع الطلب، تواجه الدول منافسة عالية في مجال الرقائق وإنتاجها، لمحاولة تحقيق الاكتفاء الذاتي.
لا شك في أن الصناعات التي تعتمد على السيليكون، ولا سيما الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات، ظلت طوال العقود الماضية حكرا على اهتمام المختصين، ودائرة ضيقة من الاقتصاديين. ورغم أن هذه المنتجات تدخل في التكوينات الأساسية لأغلبية الأشياء التي تستخدم على مستوى العالم، إلا أن أحدا من هؤلاء لم يعرها اهتماما، وليس عليه في الواقع أن يهتم بها. إنها جزء صغير أساسي في جهاز يقوم بوظائفه كاملة. هذه الصورة تغيرت خلال الفترة الأخيرة، لأسباب عديدة، في مقدمتها تأثر التصنيع بمجمله بالنقص الذي أصاب قطاع إنتاج الرقائق الإلكترونية، مع انفجار جائحة كورونا التي أضافت مزيدا من المشكلات إلى سلاسل التوريد. فهذه الأخيرة كانت تعاني اضطرابات شديدة حتى قبل تفشي كورونا، بسبب المعارك التجارية، والسياسات الحمائية، وعدم وجود أرضية صلبة لتفاهم صناعي تجاري عالمي، بحيث يضمن تبادل الأدوار لمصلحة كل الأطراف.
شركات تصنيع أشباه الموصلات ليست كثيرة على مستوى العالم، وتتصدرها المؤسسة التايوانية التي "مرة أخرى" لا يعرفها إلا المختصون "تي إس إم سي"، على الرغم من أنها تهيمن على هذه الصناعة عالميا. فالأسماء غير الرنانة على المستوى العالمي، ليست بالضرورة قليلة الأهمية. وفي تقرير نشرته صحيفة "الاقتصادية" فإن هذه الشركة التي تبلغ قيمتها الحقيقية أكثر من 550 مليار دولار، تسيطر عمليا على نصف السوق العالمية للرقائق الإلكترونية، كما أنها تتمتع بالريادة فيما يعرف بالمعالجات الإلكترونية، وتسيطر على 90 في المائة من حصة السوق العالمية. الشركة التايوانية وغيرها من الشركات المشابهة، باتت محورا رئيسا ليس فقط لمستقبل هذه الصناعة، بل لما يمكن تسميته بـ"الأمن القومي". فالنقص الخطير في إنتاج وتوريد أشباه الموصلات، دفع دولا كبرى إلى التعاطي مع هذه السلعة من هذا المفهوم. ما يبرر "مثلا" تخصيص الرئيس الأمريكي جو بايدن 52 مليار دولار قبل عدة أشهر، لدعم الصناعة، وإنشاء معامل جديدة، توفر إمدادات محلية، هربا من التوريدات الأجنبية المهددة.
هذا الأمر، عمق الصراع التكنولوجي العالمي الراهن، الأمر الذي يزيد من المشهد الدولي قوة وصلابة. كما أصبح إنتاج الرقائق الإلكترونية عامل ضغط على هذه الدولة أو تلك. فحتى عندما تفاقمت المشكلات السياسية بين الصين وتايوان أخيرا، قررت الحكومة الصينية معاقبة الجزيرة المستقلة بمنع تصدير الرمال المستخدمة في تصنيع الرقائق الإلكترونية. أي أن بلدا كتايوان الذي يتصدر الدول المصنعة لأشباه الموصلات، لا يملك كل الأدوات المحلية لهذه الصناعة. وهذا الصراع سيتفاقم أكثر، في ظل غياب حراك جديد ضمن هذه الصناعة، لأسباب بات الجميع يعرفها، وهي أن هذه الصناعة خصوصا، تتطلب تعاملا خاصا جدا، وتمويلا كبيرا أيضا. ما يؤخر قيام مؤسسات تسد النقص، في منتج يسهم مباشرة في تحريك الاقتصاد العالمي.
من هنا زاد اهتمام غير المختصين بهذا القطاع في الآونة الأخيرة. فالحكومات ذاتها صارت تتعامل مع مشكلة أشباه الموصلات كخبر شبه يومي، بعد أن عدته "أمنا قوميا". ففي السابق لم يحدث أن ظهر رئيس أو مسؤول في خطاب موجه إلى المواطنين حول أزمة أشباه الموصلات. أما الآن، ولحساسية هذا المنتج وأثره في الحراك الاقتصادي عموما، تحول إلى مسألة يمكن أن تكون محل نقاش لأشخاص عاديين، ربما لا يعرفون شكل أشباه الموصلات. الصراع على هذه الجبهة لن يتوقف، بل على العكس تماما سيأخذ أشكالا مختلفة، بما في ذلك الاستمرار في ضخ مزيد من الاستثمارات في القطاع، بحثا عن اكتفاء ذاتي في التصنيع. لكن المشكلة أن الوصول إلى هذه الغايات لن يكون سريعا، ما قد يفاقم أزمة الرقائق الإلكترونية، ويطيل أمد صراع، في وقت يعج فيه العالم بالصراعات المتنوعة.

إنشرها