Author

الغذاء .. صراعات وأزمة مزمنة

|

كثيرا ما يقال إن الاقتصاد عمل كئيب، فهو لا يناقش سوى الأزمات، ولا يتنبأ إلا بالندرة، حتى عندما يصبح الانتعاش واقعا فإن الاقتصاديين يتحدثون عن عدم اليقين، ولا شك أن هذا صحيح غالبا، فالاقتصاد يسعى إلى أن يكون علما متحفظا في تنبؤاته، ويرسم صورة المستقبل بناء على أسوأ الاحتمالات، وهذا التحفظ كثيرا ما يكون مفيدا من أجل تعزيز الإمكانات والمحافظة على رؤوس الأموال والاستثمارات وتقليل مخاطر الاندفاع غير المبررة، أو من أجل توفير ما يلزم من الدعم لتجنب السيناريو الأسوأ للأحداث.
هذه الحالة من القلق المزمن للتقارير الاقتصادية تظهر جليا في تقرير صندوق النقد الدولي الذي يحذر من أن العالم يواجه الآن واحدة من أسوأ أزمات الغذاء، على الرغم من تراجع أسعار الغذاء - وفقا للتقرير في الأسواق العالمية خلال الأشهر الأخيرة. لذلك يمكن القول إن كلمة "الآن" التي وردت في التقرير تحمل في طياتها ذلك القلق المزمن الذي لا ينفك عن التقارير الاقتصادية، التي تتضمن نوعا من التحفيز من أجل العمل بسرعة، لتحقيق متطلبات الدعم والحماية الاقتصادية، مع ذلك يجب الاعتراف بأن الحالة الغذائية التي يعانيها العالم اليوم ليست وليدة اللحظة الراهنة، بل نتاج كثير من الأحداث التي واجهها العالم خلال الأعوام الماضية. ويتحدث أحد كبار الاقتصاديين في منظمة "فاو" عن أن معظم الدول التي تواجه أزمة غذائية تعاني أصلا صراعات داخلية، فالصراع الداخلي السبب الرئيس للأزمات الغذائية، وهذا الصراع يمثل 72 في المائة من الزيادة في انعدام الأمن الغذائي منذ 2016، وهناك زيادة بنحو 25.4 مليار دولار في فاتورة الواردات الغذائية هذا العام مقارنة بالعام الماضي في 62 دولة، وتعد الأكثر ضعفا في العالم، وهذا يؤثر في 1.7 مليار شخص، فالصراع يجعل الدول تضعف في معالجة ميزان المدفوعات، وهذا ما يؤكده تقرير الصندوق من أن هناك 48 دولة مصنفة كأكثر الدول تضررا من الأزمة الغذائية الحالية، بسبب الخلل في ميزان مدفوعاتها. وميزان المدفوعات يعني أنها غير قادرة على إنتاج سلع وخدمات قابلة للتصدير من أجل شراء ما تحتاج إليه من الغذاء، أو ما تحتاج إليه من أسمدة وممكنات زراعية، لذلك فإن أي تغيير مفاجئ في أسعار الغذاء والأسمدة سيعني زيادة جديدة في قيمة فواتير الواردات، وبالتالي استمرار المعاناة، وتشير تقديرات الصندوق إلى أن هذه الدول ستحتاج إلى ما بين خمسة وسبعة مليارات دولار إضافية في ميزانياتها لتخفيف حدة الأزمة على الأسر.
انعدام الأمن الغذائي الحاد يتصاعد بسرعة وينتشر في جميع أنحاء العالم. يعاني الناس في أفقر الدول، خصوصا الذين لم يتعافوا بعد تأثير جائحة كوفيد - 19، الآثار المتتالية للصراعات المستمرة، من حيث الأسعار، وإمدادات الغذاء والأسمدة، فضلا عن حالة الطوارئ المناخية. ودون استجابة إنسانية موسعة على نطاق واسع تتضمن في جوهرها مساعدات زراعية في الوقت المناسب ومنقذة للأرواح، فمن المرجح أن يزداد الوضع سوءا في عديد من الدول.
وأدت الحرب في أوكرانيا - وهو نوع من الصراع - إلى تفاقم المشكلة نظرا إلى توقف الصادرات من أكبر مصدرين رئيسين للحبوب، وهناك نحو 50 دولة تعتمد عليهما بنسب تصل إلى 50 في المائة من وارداتها من الحبوب، كما أن روسيا أكبر مصدر للنيتروجين في العالم، وثاني مصدر للبوتاسيوم، وثالث مصدر لسماد الفوسفور، عندما أوقفت صادرات الأسمدة، أوجدت مشكلة للمزارعين. ورغم وضوح الدور الذي يلعبه الصراع في تفاقم الأزمات الغذائية، فإن تقرير الصندوق يربط بين أسعار الطاقة وارتفاع أسعار الغذاء بطريقة لا تبدو واضحة تماما، حتى مع وجود علاقة بين أسعار الطاقة والغذاء، فإن الارتفاعات التي يشهدها العالم في أسعار الطاقة تعود في جزء منها إلى الصراع الدائر في أجزاء عديدة من العالم.
إضافة إلى الصراع هناك مشكلة مزمنة مع سلاسل الإمداد اندلعت مع الأزمة الصحية ولم تزل تمتد حتى اليوم، وفرضت أكثر من 20 دولة قيودا على الصادرات بحلول نهاية تموز (يوليو) الماضي وشمل ذلك منتجات مثل الأرز، والقمح، والزيوت النباتية، كما أن الولايات المتحدة تقدم دليلا مختلفا بشأن الأمن الغذائي. وأورد تقرير حديث أن 10 في المائة من سكان الولايات المتحدة يواجهون انعدام الأمن الغذائي، وفي الوقت نفسه هناك 40 في المائة من السكان البالغين، ونحو 20 في المائة من الأطفال يعانون البدانة، فالمسألة تأتي في سياق مختلف، فالتوزيع غير المتناسب للغذاء والحصص الغذائية قد يوجد مشكلة غذاء حتى في دولة متقدمة وغنية مثل الولايات المتحدة التي أعلن البيت الأبيض هدفه بالقضاء على الجوع والبدانة معا، بالتزامات تقدر بثمانية مليارات دولار، بينها استثمار مليارين ونصف المليار دولار في شركات ناشئة متخصصة في مجال الغذاء، وأكثر من أربعة مليارات دولار مخصصة للأعمال الخيرية والجمعيات. ومرة أخرى لا يبدو أن لأسعار الطاقة علاقة بمشكلة عدم تناول شخص بالغ من بين كل عشرة في البلاد كميات كافية من الخضراوات والفواكه، بينما يتناول أكثر من نصف الأطفال عبوة من المشروبات المحلاة على الأقل يوميا.
أخيرا، يجب أن يكون الحفاظ على استمرار التدفقات العالمية للمواد الغذائية، ولا سيما في وقت تزايد الضغوط الاقتصادية والجيوسياسية، حدا أدنى مطلوبا من واضعي السياسات، وهو يعادل قاعدة لا ضرر ولا ضرار. إن توفير المساعدات الغذائية بلا انقطاع يعود بالفائدة على مواطني جميع الدول.

إنشرها