Author

عالم مثالي بدون تحيزات

|

ماذا سيحدث لو أن الحياة العملية والمهنية أصبحت خالية من الشخصنة؟ سيتلاشى كثير من الأفكار السيئة، وتقل الأحكام التي لا تستند على واقع وبينة. وربما تحسن التواصل إلى درجة أن الكل يتواصل مع الكل دون أي معوقات مفتعلة أو أحكام مسبقة. لو اختفت الشخصنة، ستضمحل العنصرية إلى أدنى درجاتها، وستقل الأسباب التي تدعو الأشخاص إلى التفرقة غير العادلة. ستزداد الفرص التي يتبادلها الأفراد وسترتفع كمية الأمل المتبادلة والثقة البينية إلى مستويات غير معهودة. مع الأسف، هذا التصور الخيالي مستحيل الحدوث.
تصف الشخصنة نوعا من المغالطات التي تقوم على استخدام معلومات غير صحيحة أو غير مؤكدة أو غير مرتبطة بفكرة النقاش، أو المفهوم المنظور من أطراف النقاش أو التعامل. ومع أن الشخصنة كمفهوم، لها تعريفها في سياق المناظرات والنقاشات السياسية والثقافية، إلا أنها في بيئة العمل لا تنحصر بالضرورة في هذا التعريف نفسه. إذ تتداخل مجموعة من السلوكيات القائمة على التحيزات الطبيعية وتمارس داخل بيئة العمل في النقاشات وفي التعاملات المباشرة وغير المباشرة. ليس بالضرورة أن تظهر الشخصنة في نقاش مباشر بين شخصين في غرفة الاجتماعات، وإنما قد تتجسد في توصية بالترقية ممتلئة بمعطيات غير موضوعية تتعارض مع مبدأ الاستحقاق، وقد تظهر في التردد عند التفاعل مع فرق عمل بسبب أحكام مسبقة يملكها شخص ما، تجاه فرد أو مجموعة محددة. قد تتسبب هذه التحيزات في تفويت فرصة النمو أو الإنتاجية الفاعلة في ظروف ممتازة لا تتكرر بسهولة، وقد تنتج قرارات ظالمة يتحمل أثرها البعض بشكل مباشر. مع الأسف، تتغير حياة الناس بسبب هذا النوع من الظلم وربما يتشربه البعض لأعوام دون أن يشعر، كلا الطرفين، المظلوم كمتأثر والمتحيز كمؤثر.
تطرقت أدبيات الإدارة والسلوك التنظيمي إلى هذه المسائل وأشار الخبراء والعلماء إلى كثير من الوسائل التي تحد من هذه السلوكيات، ابتداء بأخلاقيات العمل والآداب المهنية، والإدارة الإيجابية لثقافة المنظمة، والتنظيمات المقاومة للتفرقة والعنصرية، والإجراءات التي تقدم العدالة والمساواة، وانتهاء بالعقوبات على أشكال محددة من المخالفات الواضحة القابلة للإثبات. ومن هؤلاء المختصين من شكك في جدوى هذه الاحترازات في منع التحيزات إجمالا.
تصعب في العادة مقاومة هذه التحيزات لأكثر من سبب، منها أن معظم هذه التحيزات تحصل أساسا بشكل لا يمكن إثباته، ويصعب كذلك تسبيب أثرها. تماما مثل إثبات النية في مسائل التمييز والتفرقة، سواء في قرارات رفض التوظيف أو المكافأة أو حتى دفع أو منع المشاركة في المشاريع والأعمال. والآخر، لأن من هذه التحيزات ـ مثل ما يسمى بالتحيزات اللاواعية وهو أكثر ما يرتبط بالشخصنة والأحكام المسبقة في أماكن العمل ـ ما يحدث بصورة طبيعية لدى الفرد. إذ إن تفاعل الإنسان مع الآخرين مبني على ملاحظة فروقات حقيقية يقوم بتصنيفها وترتيبها عقليا بطريقة تؤثر في الحكم الشخصي، وهذا الحكم الشخصي يستند على الأهواء والرغبات والخلفيات. لا يمكن إنهاء هذا الأمر بالكلية أو القضاء عليه، لأن استخدام الشخص هذه الإمكانيات "غير الموضوعية" مطلوب في سياقات أخرى مرتبطة بالحياة، تماما مثل المشاعر، ولأنها ببساطة طبيعة النفس البشرية.
إدراك قدرة التحيزات اللاواعية على التأثير في الأحكام والقرارات مهم جدا للتقليل من الأثر السلبي الحتمي. لا يخفى على أحد أن هناك فروقات كبيرة بين المنظمات في درجة سيطرة السلوكيات السلبية المرتبطة بالتحيزات. وهذه الفروقات قائمة على عدد من السمات التنظيمية منها الثقافة السائدة ومستوى وطبيعة الالتزام المهني والأخلاقي ومدى فاعلية التنظيمات وتغطيتها هذه الجوانب وسمات أخرى. لكن بعيدا عن الجوانب التنظيمية، يظل الفرد هو الحاكم الأول على نفسه والمؤثر الأهم في عدالة قراراته. لن يتمكن أحد من تحييد تفكيره اللاواعي أو تحيزاته الطبيعية بالكلية، لكن من الأكيد أن الوعي المهني يحسن من قدرة الفرد على إدارة هذا التحدي الذاتي ـ قبل أن يكون تحديا اجتماعيا مؤسسيا ـ بإدراكه لطبيعة المواقف التي تستحث هذه التحيزات وممارسته أساليب الوقاية المعرفية الممكنة. من الأكيد أن الفرد المهني يرفع من فرص نجاحه ونجاح منظمته إذا قلل من هذه المخاطر القريبة من الجميع، ويقلل من فرص نجاحه ونجاح منظمته كلما اقترب أكثر من الشخصنة وما يتبعها من تحيزات.

إنشرها