Author

البنوك .. مسؤولية محدودة الأثر

|

في عصر يتسابق فيه الجميع إلى كسب المستهلك والظفر برضاه تصبح مسألة المسؤولية الاجتماعية في البنوك محض ضرورة، بمعنى أنه لا مناص للبنوك والمؤسسات المالية من النهوض بدور اجتماعي ما. وذلك ليس لأن هذا مفيد لها من الناحية الاقتصادية، إنما لأن هذه هي الطريقة الوحيدة تقريبا للحصول على المستهلكين.
وتؤثر البنوك في حياتنا اليومية بشكل واضح وكبير، ودورها يتجاوز حفظ الأموال ومنح الائتمان، وأصبحت تلعب أدوارا اجتماعية - حتى لو لم تعترف بذلك صراحة - فهي تقوم بتوجيه قرارات الناس والأموال نحو قطاعات معينة، مثل العقار، وحجبها عن قطاعات أخرى كالسياحة والتجزئة، ما يؤكد أن للبنوك آثارا حتمية ومصيرية في المجتمع، ولهذا فإن عليها مسؤولية اجتماعية عند اتخاذ هذه القرارات. لكن قبل مناقشة هذه المسألة بقليل من التفصيل نحتاج إلى أن نحدد تعريفا للمسؤولية الاجتماعية التي نقصدها، فعندما نشأ هذا المصطلح كان يختلط بمفهوم العمل الخيري، بحيث يعد قيام المنشآت بالتبرع أو دعم بعض الفئات كافيا لجعلها تدعي القيام بمسؤوليتها الاجتماعية، لكن أبعاد هذا المفهوم تتجاوز ذلك تماما، فهي اليوم تشمل قضايا البيئة، والاستدامة، والمجتمع المحلي، والمجتمعات منخفضة الدخل. كما تأخذ المسؤولية الاجتماعية للشركات بعدا مختلفا من حيث إنها اندمجت اليوم في جميع ممارسات النشاط التجاري للشركات، ويجادل البعض بأن المسؤولية الاجتماعية تصل إلى مستوى التوقف عن دعم الصناعات التي لها تأثير سلبي في المجتمع.
وفق هذا المفهوم الشمولي يعرف البنك الدولي المسؤولية الاجتماعية للشركات بأنها "التزام بالتنمية المستدامة، من خلال العمل مع الموظفين وعائلاتهم والمجتمع المحلي والمجتمع كله، لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة والتنمية في آن واحد"، ويعمل البنك الدولي ومؤسسات دولية كثيرة اليوم لتحسين مستويات الإفصاح عن هذه المسؤولية وإعداد التقارير عنها.
في ضوء هذا المفهوم الشامل يمكن لنا مناقشة الدور الذي تقوم به البنوك السعودية لتحقيق المسؤولية الاجتماعية، فمن المعلوم أن البنوك السعودية تتمتع بإيرادات مالية عالية الأرقام، وأشارت تقارير إلى أن أرباح البنوك السعودية المدرجة ارتفعت في الربع الأول من 2022 بنسبة 18.3 في المائة عن أرباح الربع السابق "الربع الرابع من 2021"، البالغة 12.42 مليار ريال، لترتفع 2.27 مليار ريال على أساس ربعي. وتجاوز حجم الودائع في البنوك تريليوني ريال بنهاية 2021. وبذلك، فإن البنوك السعودية ترتكز على مركز مالي ضخم ومتين وأرباح قياسية، ونمو قوي، ومع ذلك فإن معظم الدراسات التي تحققت من المسؤولية الاجتماعية انتهت إلى نتيجة واحدة، وهي أن هذه الإسهامات ضعيفة وهامشية ولا تذكر مقارنة بهذه الأرباح والإيرادات الكبيرة.
فكان المتوقع منها المبادرة بشكل أكثر فاعلية، وفي مجالات متعددة، وألا تقتصر مشاركتها على التبرع والدعم المربوط بالجانب التسويقي، ولها دور أكبر ومشاركة مجتمعية أعمق من خلال بناء دور للمسنين ودور حضانة أو مدرسة نموذجية، أو ابتعاث طلاب لدراسة تخصص نادر معين يدعم حاجات سوق العمل ويمكن توظيفهم في البنوك نفسها. والأهم من ذلك كله هو، تمويل البحوث ودعم المراكز العلمية. كان ينبغي للبنوك التعاون مع مراكز البحث العلمي في الجامعات ومراكز الأبحاث في وزارة الصحة وكليات الطب، من خلال دعم وتمويل وتبني الأبحاث الرامية إلى إيجاد علاج أو لقاح لهذا الفيروس لتحقيق موقف مشرف للوطن في المساهمة من خلال مراكزه العلمية في التصدي لهذه الجائحة.
حقيقة، لا ننكر أن البنوك السعودية تمارس بعضا من أنشطة المسؤولية الاجتماعية، لكنها في هذا المجال تمارسها كأي منشأة وليس وفقا لما تتمتع به من إمكانات وتأثير، فالتبرع بمبالغ محدودة لسلة رمضانية أو تشجير منطقة، هو بلا شك تحقيق للمفهوم، لكنه بمقياس النسبة والتناسب، فإن مثل هذه الأنشطة لا تتناسب مع البنوك السعودية وحجم أرباحها وإيراداتها. والبنوك السعودية تمارس إفصاحات للمسؤولية الاجتماعية، ولكن يؤكد الدارسون في هذا المجال أنه رغم إفصاح البنوك السعودية عن المسؤولية المجتمعية بطريقة تشبه البنوك والشركات العالمية، بل تعمل وفقا للتقارير ذات العلاقة بالاستدامة، لكن المحتوى لا يتناسب مع الممارسات العالمية، فالدراسات لم تجد معلومات عن مشاركة البنوك في مجالات البيئة، ولا تقدم معلومات عن المستهلك/ المنتج، ولا عن المجهودات في الأعمال الخيرية، أو الصحة والسلامة، وفي دراسات كثيرة وصفت ممارسات البنوك السعودية بأنها من الأقل تنظيما في البلدان النامية، وذهبت بعض التقارير حتى إلى مستوى عدد الصفحات المنشورة عن معلومات المسؤولية الاجتماعية، وتبين أن هناك فجوات بين الممارسات العالمية وما تفصح عنه البنوك السعودية، فالمنتج الحقيقي للبنوك في هذا الشأن لا يمكن وصفه بأكثر من الجهود الهامشية محدودة الأثر والزمن، فالعنوان البراق للمسؤولية الاجتماعية واستخدام المفاهيم الصحيحة لا يعني بالضرورة أن الممارسات مشجعة فعلا، بل ما زال المجتمع بحاجة إلى جهود واضحة من البنوك في هذا الشأن.
كما أشرنا في المقدمة، فإن التعريف الشامل للمسؤولية الاجتماعية يتطلب من البنوك إعادة تقييم جميع أنشطتها وفقا لهذا، وإذا كانت الدولة تسعى بخططها إلى دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، فإن دور البنوك يأتي محوريا من خلال التمويل القوي والمخطط بدقة، بحيث يشمل ذلك تسهيلات للأجور، وتسهيلات لدعم المخزون، كما يجب أن يكون لها دور واضح بشأن التوطين، ليس من خلال توظيف الشباب، بل من خلال تقديم منح للمنشآت الصغيرة الأكثر توظيفا، وتخفيض الرسوم والفوائد، ومنح مدد أطول لكل الشركات التي تسهم في المشاريع الحيوية التي تمس الاقتصاد وتمس رؤية المملكة 2030 مباشرة، كما أنه يجب أن يكون لها دور فاعل وواضح في مشاريع الإسكان الخيري وتمويل الشركات التي تنفذ هذه المشاريع بوضوح، هذا بخلاف جهودها المفروضة في إنشاء المجمعات الطبية والتعليمية ومساندة الجامعات ودور الأيتام والحضانة والتأهيل، وتتوسع مسؤولية البنوك الاجتماعية لتصل إلى دعم جهود الدولة في الابتعاث، ولو في مجال الخدمات البنكية.

إنشرها