Author

الغرب .. وتحديد سقف سعر النفط الروسي

|
أستاذ جامعي ـ السويد

قد يتصور القارئ الكريم أننا نغالي في تأكيدنا أن النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي يتصدران المشهد في أوروبا الغربية، وأن أخبار الحرب في أوكرانيا وسير المعارك فيها لم تعد تستأثر بأهمية كبيرة.
لن يعرف المرء عمق أزمة الطاقة التي تعانيها الدول الغربية في أوروبا إن لم يعش فيها ويعاني شتاءها القاسي حيث تنخفض درجة الحرارة في بعض دوله إلى ناقص 20 درجة مئوية.
من هنا تأتي أهمية النفط والغاز للتدفئة، عدا كونهما عماد الصناعة.
وإن أردنا أن نقرب الأثر البالغ لشح النفط والغاز وارتفاع أسعارهما على هذه الدول مع عدم توافر التدفئة لفترات طويلة، خصوصا في الشتاء، فإن أفضل مثال يراودني هو انقطاع الكهرباء لفترة طويلة وفي عز الصيف في الدول المنتجة. أظن أن وضعا كهذا ـ لا سمح الله ـ سيكون كارثيا.
هذه مقاربة واقعية للسيناريو الذي يخشاه الغرب، وأسعار النفط تبلغ نحو 95 دولارا حاليا، وهي أقل بنحو 25 دولارا عن سعر البرميل في مطلع نيسان (أبريل) الماضي.
مع ذلك، فإن الغرب يجد أن سعر برميل النفط الحالي "نحو 95 دولارا" يفوق بمقدار 30 ـ 40 دولارا عن السعر المتوسط الذي يرغب فيه ويراه موائما لاستدامة الحياة والصناعة والنمو في دوله.
أما الغاز الطبيعي، فالوضع أكثر تعقيدا من النفط، وذلك لاعتماد صناعات أساسية عليه. أسعار الغاز حققت طفرات كبيرة ومع قلة العرض نتيجة تقليص الواردات من روسيا، فإن الأسعار والشح قد تصل إلى مستويات تتعطل فيها كثير من الصناعات، ولن يكون بمقدور المستهلكين دفع الفواتير.
ونلحظ للتو كيف يعبر الناس عن امتعاضهم من ارتفاع الأسعار من خلال الاحتجاج والمظاهرات، أما السياسيون فلا يملكون حيلة غير إنذار مواطنيهم من توقع أيام صعبة للغاية.
لا يخفى أن الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأوضاع وانحسار المعروض من النفط ومشتقاته وكذلك الغاز الطبيعي باينة للعيان، ما يحدث من تقلبات في أسعار الطاقة عالميا نتيجة مباشرة للحرب في أوروبا وتشديد الغرب للحصار على روسيا.
وآخر ما كان في جعبة الدول الغربية، كان تأكيد المضي قدما لوضع سقف لأسعار النفط الخام الروسي ومشتقاته.
لقد كتب وأنذر كثير من المحللين الغربيين أن التشديد في العقوبات الاقتصادية على دول بحجم روسيا لا بد أن تكون له مردودات سلبية على فارضي ومنفذي الحصار وكذلك على الاقتصاد العالمي برمته.
الحصار الشامل الذي فرضه الغرب على روسيا، الذي هو أقسى حصار في التاريخ المعاصر، لم يؤت أكله. فبعد ستة أشهر ونيف لا يزال الاقتصاد الروسي صامدا والعملة الوطنية "الروبل" في أحسن حال.
كان الغربيون يرومون، من خلال الحصار، إلى انهيار الاقتصاد الروسي وتحطيم العملة الروسية، إلا أن ارتفاع أسعار النفط والغاز مع تدفق الصادرات الروسية من النفط إلى الشرق والغاز إلى الغرب نفسه، لم يجعل الخزينة الروسية تعاني نقصا في العملة الصعبة.
ومع كل هذه الوقائع، هناك قرار قيد الدرس وصل إلى مراحله النهائية، ستفرض بموجبه الدول الصناعية السبع، سقفا محددا على سعر النفط الروسي ومشتقاته. هذا القرار، لو طبق، سيكون له أثر يفوق بكثير ما كان لحزم الحصارات المختلفة التي فرضها الغربيون على روسيا.
والقرار لقي حتى الآن انتقادا شديدا من المختصين والباحثين والصحافة بصورة عامة. ولم أقرأ مقالا يشيد به غير مادة جرى نشرها الثلاثاء الماضي في مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، وقد نعرج عليها في الأسبوع المقبل.
وليس هناك فقط تهجم على القرار، بل استهزاء بالساسة الذين وصل الأمر بهم إلى اللجوء إلى ما قد تكون له مردودات سلبية لم تكن في الحسبان، كما هو شأن حزم الحصارات الكثيفة التي فرضها الغرب على روسيا.
تعد روسيا ثالث دولة منتجة للنفط بعد الولايات المتحدة والسعودية. يبلغ متوسط إنتاجها 11 مليون برميل، تصدر منها نحو خمسة ملايين برميل يوميا. إضافة إلى ذلك، تصدر روسيا 2.8 مليون برميل يوميا من المشتقات النفطية.
تخيل ماذا سيحدث لأسواق الطاقة العالمية وأسعار الطاقة لو أوقفت روسيا صادراتها من الخام والمشتقات التي تصل بمجموعها إلى 7.8 مليون برميل في النهار؟
يبدو أن قرارا مثل هذا رغم خطورته هو آخر ما في جعبة الغربيين لتحجيم دور روسيا في العالم واحتواء آثار تدخلها في أوكرانيا. إن لم يطبقوه، فسيكون لروسيا اليد العليا، وإن طبقوه ونجحوا في مساعيهم ـ وهذا أمر بعيد المنال لا يؤيده أغلب المختصين ـ سيتمكنون لأول مرة، منذ أن تحول إلى سلع استراتيجية ما بعد الحرب العالمية الثانية، من ضبط أسعار النفط لمصلحتهم ومصلحة اقتصاداتهم.
هل على الدول المنتجة للنفط الخشية من القرار؟ نعم، لأنه إن طبق القرار وتكلل بالنجاح لجرى تنفيذ السياسات ذاتها مع الدول المنتجة الأخرى.
هذا القرار، حسب قناعتي، آخر ما في جعبة الغرب من الوسائل ليس فقط لمعاقبة روسيا، بل أخذ زمام المبادرة من الدول المنتجة، في تحديد سقف الأسعار.

إنشرها