كيف تستطيع سريلانكا علاج مشكلاتها الاقتصادية؟
صحيح أن التوتر والفوضى وأعمال العنف التي شهدتها سريلانكا ذات الـ22 مليون نسمة قد خفت حدتها، بعد أن تخلت عائلة راجاباكسا الفاسدة عن السلطة، لكن الصحيح أيضا أن العهد الجديد بقيادة الرئيس رانيل ويكريمسينغا، الذي اختاره البرلمان في 20 تموز (يوليو) الماضي بديلا عن الرئيس الهارب غوتابايا راجاباسكا، يواجه من التحديات الثقيلة ما قد يقلب الطاولة عليه كسلفه، إن لم يسارع إلى إيجاد حلول واقعية لها.
بمعنى آخر، فإن تغيير رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لن يحل وحده ما تعانيه هذه البلاد من مآزق اقتصادية ومعيشية. فويكريمسينغا ورئيس حكومته المعين دينيش جوناوردينا ورثا اقتصادا منهكا، وعملة فقدت ما يقرب من نصف قيمتها، وتضخما في الأسعار وصل إلى أكثر من 60 في المائة، ونقصا حادا في الوقود والغذاء والكهرباء، وبنكا مركزيا خاليا من العملات الصعبة اللازمة لتمويل الواردات، وديونا خارجية للصين واليابان والهند وغيرها بقيمة 51 مليار دولار "خدمة هذه الديون فيما تبقى من العام الجاري تحتاج إلى نحو سبعة مليارات دولار". ونجد تجليات الوضع الاقتصادي الخانق في سريلانكا في عجز الحكومة حتى عن سداد رواتب موظفيها والعاملين في القطاع العام.
من هنا، كان كلام المسؤول السابق في البنك المركزي السريلانكي بروفيسور علم الاقتصاد الدكتور فيدورا تينيكون، حول ضرورة التحرك بسرعة لإصلاح الأمور قبل أن تنفلت الأوضاع مجددا بفعل الضغوط المعيشية اليومية، وذلك بالتخلي تماما عن السياسات والممارسات القديمة، والقيام بإصلاحات جوهرية لإعادة الاقتصاد إلى المسار الصحيح، مع القيام بحملة دبلوماسية لإقناع الدائنين الكبار في بكين وطوكيو ونيودلهي بتقديم المساعدة وشطب بعض الديون المستحقة.
والحقيقة التي لا جدال حولها أن سريلانكا اليوم أمام وضع اقتصادي غير مسبوق، وتواجه أربعة تحديات رئيسة مترابطة ببعضها بعضا، يتعين على الحكومة الجديدة معالجتها دون إبطاء، وتشمل هذه التحديات: أولا، كبح جماح التضخم في أسعار المواد الغذائية "خصوصا الأرز والقمح والسكر" التي شهدت ارتفاعات تراوحت بين 76 و200 في المائة، بحيث بات الأجر اليومي للموظف غير كاف لتأمين وجباته الثلاث. ثانيا، تأمين وقود الطهي الذي تحولت أسطواناتها إلى سلعة يتقاتل عليها الناس في الشوارع. ثالثا، إعادة فتح دور العلم المغلقة منذ عدة أشهر مع تأمين احتياجاتها لكي تؤدي دورها الطبيعي. رابعا، العمل على الحصول على حزمة مساعدات عاجلة في شكل هبات أو منح مؤجلة الدفع لاستيراد الوقود اللازم لإعادة تشغيل وسائل النقل العام، وبالتالي تأمين الانتقال السريع والآمن للجماهير.
المعروف أن سريلانكا اعتمدت في إيراداتها في الماضي على مصدرين هما السياحة وتحويلات مواطنيها العاملين في الخارج، لكن كلا المصدرين لم يعد متاحا. فالسياحة بارت وتوقفت ولن تعود في ظل الاضطرابات والفوضى الأمنية ونقص الخدمات. وبالمثل فإن العمالة السريلانكية في الخارج لن تجازف بتحويل مدخراتها إلى عملة وطنية فقدت قيمتها ولم تعد موضع ثقة. ولهذا يقول البروفيسور تينيكون، إنه لا مفر أمام الحكومة الجديدة من تقليص عجز الميزانية عبر تخفيض النفقات التي كانت دائما ضعف الإيرادات أي إنفاق مفرط في ظل عائدات قليلة. ويقترح الخبير السريلانكي أن تتوقف الحكومة عن سياسة طبع مزيد من النقود لأن من شأن ذلك إحداث مزيد من التضخم، وأن تعتمد بدلا من ذلك سياسة إصلاح الميزانية عبر تخفيض الإنفاقات ورفع الضرائب مع إعادة هيكلة ديون البلاد الضخمة التي علقت الحكومة السابقة مدفوعاتها في نيسان (أبريل) الماضي، حيث كان 45 في المائة منها مستحقا لمستثمرين من القطاع الخاص، بينما كانت النسبة المتبقية مستحقة لدول ومؤسسات متعددة الجنسيات، كالصين واليابان والهند وبنك التنمية الآسيوي والبنك الدولي.
وهناك من اقترح أن خلاص سريلانكا يكمن في اللجوء إلى طلب المساعدة من البنك الدولي، مؤكدا ما ينطوي عليه مثل هذا الإجراء من آلام ومصاعب لن تكون باي حال أسوأ مما تتجرعه الجماهير حاليا. لكن المشكلة تكمن في أنه حتى البنك الدولي غير مستعد لإقراض سريلانكا ما لم تقدم الأخيرة تأكيدات وضمانات حول استعادة قدرتها على تحمل الديون، وحول استقلالية البنك المركزي السريلانكي، ومحاربة الفساد وسيادة القانون. وهو ما يعني أن سريلانكا بحاجة أولا وقبل كل شيء إلى الاستقرار السياسي، وهذا بدوره يحتاج إلى نيل رئيس الجمهورية ورئيس حكومته تفويضا سياسيا قويا من البرلمان والشارع، بمعنى أن توحد القوى والأحزاب السياسية مرئياتها وجهودها خلف الحكومة، وأن تعمل معها يدا بيد تحت شعار "توحيد الأمة وتعزيز مؤسسات الدولة والخضوع للقانون". غير أن هذا يبدو بعيد المنال، خصوصا إذا ما علمنا أن الرئيس الجديد للبلاد ليس من الشخصيات السياسية المؤثرة ذات التاريخ الناصع والكاريزما الجماهيرية، بحيث تنجح في انتزاع التخويل المطلوب لإحداث التغيير دون معوقات أو اعتراضات. ولعل هذا ما دفع البعض للتشكيك حتى في قدرة ويكريمسينغا على إكمال الفترة المتبقية من رئاسة سلفه الهارب.