Author

مؤشرات اقتصاد منطقة عسير «2»

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
في المقال السابق وصفت اقتصاد عسير قبل الحكم السعودي، وعدم قدرة القبائل على إنتاج الدولة، وعدم جود الدولة يعني بالتأكيد غياب عنصر القانون، فلا يوجد قانون مكتوب ولا حكومة فاعلة تقوم بخدمة القانون، ومع غياب هذا العنصرين معا، لم يظهر التعليم ولم تكن هناك تنمية لغياب المبادرات والابتكار، وهذا جعل المنطقة في عزلة طويلة جدا، عزلة كان سببها فكريا في المقام الأول.
من المعلوم أنه لا يمكن إحداث تطوير اقتصادي ما لم تتحقق هذه العوامل، دولة وقانون ثم حكومة تحمي القانون والتعليم الذي يحفز المبادرة والابتكار، بخلاف ذلك فإن العيش على حد الكفاف والاعتماد على الطبيعة في الإنتاج هو السمة العامة، وتصبح المقايضة هي الوسيلة الوحيدة لتحديد مقدار التضحية بالموارد. عندما دخلت منطقة عسير تحت الحكم السعودي، انطلقت عجلة التنمية بصورة سريعة جدا فقد توافر وبسرعة أهم العوامل المحركة للنمو الاقتصادي وهي الدولة، الدولة التي تحرص على حماية أفرادها وتوفير كل الظروف المناسبة للحياة الكريمة، كانت المنطقة بحاجة وبشكل عاجل إلى معنى الدولة التي تحمي الجميع وفقا لقانون عام يضمن الحقوق، ويحدد المسؤوليات، وهذا حرر الناس جزئيا من قيود القبيلة، وأصبح هناك هامش حرية أوسع فالدولة الآن تضمن الحقوق والأمن وليست الجماعة القبلية، ما سمح للناس بالحركة والتنقل بين أرجاء البلاد السعودية ونقل المعرفة من الآخر، وهذا التحول السريع جدا تطلب من الحكومة إصلاحات سريعة للطرق، وربط المنطقة في العالم عبر ممرات بين الجبال الوعرة للغاية، وقد تطلب إنجاز هذه المهمة الصعبة وقتا، فلم تكن هناك بنية تحتية يمكن التأسيس عليها، هذا الأمر بالذات منح مناطق أخرى قصب السبق لسهولة تعبيد الطرق، لكن هذا لم يفت في عضد الحكومة السعودية التي استمرت في دعم البنية التحتية للمنطقة بسخاء كبير، ويمكن القول هنا إن النهضة الحضارية الشاملة في المنطقة قد انطلقت فعليا على يد الأمير خالد الفيصل، الذي يعد الأب الروحي لهذا المشروع الحضاري في المنطقة إذا جاز التعبير.
كما أشرت فإن سيادة القانون وبناء الحكومة التي تحمي هذا القانون هي الخطوات الرئيسة للبناء الاقتصادي، وهذا ما حدث فعليا في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- لكن الانتقال إلى القفزات الحضارية كان يتطلب ثورة تعليمية واسعة، من اللافت للنظر أن الحركة التعليمية في منطقة عسير قد ارتكزت أول الأمر على التعليم الشرعي بشكل أساس، واللغة العربية ثانيا، مع تأخر لافت في دخول مسارات عديدة للتعليم مثل إدارة الأعمال والقانون، والهندسة والطب والاقتصاد والفنون عموما، وذلك لعقود وهذه العلوم بالذات تعد المرتكزات للحراك الاقتصادي، لعل اهتمام الدولة في تلك الفترة بشأن ترسيخ النظام والحكم في منطقة لم تشهد مثل هذا من قبل هو السبب الأساس، فالرغبة في وجود من يشرح النظام للناس ويعمل في المحاكم ويضمن تنفيذ الأحكام كان يتطلب جيلا من المختصين، لكن هذا بالطبع كان كفيلا بأن يصبح الخريجون عاملين في القطاع الحكومي فقط، وقد تحققت لهم مزايا كبيرة على المزارعين، وأصحاب الحرف في الأسواق، كما توافر لهم دخل مناسب جعلهم أكثر رفاهية، وبما عزز مفهوم العمل الحكومي لدى شريحة كبيرة من شباب المنطقة كمصدر للثروة وأصبح بديلا أفضل من الزراعة والعمل الحر، بل لقد وصل الأمر لاعتبار الذين لم يوفقوا لهذه الوظائف لسوء حظهم من الفاشلين، وامتد أثر ذلك حتى اليوم في التفكير العام بشأن مفهوم الإنتاج والعمل والبطالة ودور الحكومة في اقتصاد المنطقة عموما. لتوضيح هذه النقطة بالذات، يجب فهم أهم آلية في التطور الاقتصادي وهي مفهوم التراكم الرأسمالي، فانطلاق النهضة الاقتصادية يتطلب جمع رؤوس الأموال ومن ثم بناء الأصول الرأسمالية المنتجة، للوصول إلى إنتاج كبير يباع في الأسواق لجني الأرباح وتوزيعها على أصحاب رأس المال وتحقيق الثروة، لكن في منطقة لم تشهد مثل هذا الحراك، والعمل الحكومي هو المصدر الأول للحصول على المال كما أنه لا يتطلب جمع رؤوس الأموال ولا تراكما رأسماليا وهو أيضا معدوم المخاطر، فقد أصبح المجتمع بكامله أسيرا لفكرة العمل الحكومي وعدم تحمل مخاطر الأعمال وبناء المنظمات، وهذا منع المنطقة من الاستفادة من الحراك الاقتصادي الضخم الذي عم المملكة، وهو الحراك الذي شمل إنفاقا سخيا على البنى التحتية في كل المجالات، فلم تظهر شركات عقارية ولا شركات مقاولات كبرى، ولم تظهر صناعات مصاحبة، بل انخرط معظم الناس في العمل الحكومي بكل أنواعه.
هنا يجب التوقف عند أحد أسباب الغياب الواسع للمبادرات والابتكار، فبسبب انخراط المجتمع في التعليم الشرعي واللغة العربية والعلوم ذات العلاقة بها، وتحول معظم الخريجين للتدريس والأعمال الحكومية، غابت روح المبادرة وغاب الابتكار، لكن نستثني من ذلك فقط تلك المبادرات التنموية التي قامت بها إمارة منطقة عسير بقيادة الأمير خالد الفيصل آنذاك. ففي تلك المكاتب كانت تجتمع العقول من أجل تحقيق مبادرات الأمير خالد في تطوير المنطقة، ولذا شهدت المنطقة أكبر وأهم تطوير لها في ذلك العهد، وتحولت بسبب جهود الأمير خالد الفصيل إلى مزار سياحي وأحد أهم المصايف وتدفق السياح "إذا جاز التعبير" للمنطقة في سيل جارف من جميع أرجاء المملكة والخليج العربي، ونشأت لأول مرة حركة اقتصادية حقيقية بعيدا عن مفهوم الجماعة والقبلية، لكن القيود الذهنية وضعف المبادرات والابتكار وتأخر دخول التعليم في تخصصات مهمة للمنطقة أثر في تلك التجربة بشكل كبير كما سيتم توضيحه في المقالات الآتية بإذن الله.
إنشرها