Author

الوظيفة ورأس المال الاجتماعي .. تناغم أم تناقض؟

|
يفترض البعض أن الوظيفة الجيدة تبعده عن مجتمعه، وربما تفقده بعض أصدقائه، وينظر أحيانا للموضوع وكأن العلاقة عكسية دائما، كلما نجح الشخص مهنيا تفرد واستقل اجتماعيا، إذ يدفعه نجاحه نحو الوحدة والابتعاد عما اعتاد عليه من تفاعلات اجتماعية في محيطه. وربما اتهمه أصدقاؤه السابقون بالأنانية والغرور. مثل هذا تقل زيارته إلى مدينته الأصلية، يضعف ارتباطه بأقربائه، ويصعب عليه القيام بما نطلق عليه "الالتزامات الاجتماعية" خلال أيام الأسبوع وربما يتركها بالكامل. وعلى الجانب الآخر، هناك من ينجح في القيام بالعكس تماما، إذ تفتح له الوظيفة آفاقا جديدة من العلاقات والتفاعلات، داخل منظمته وخارجها بعد فترة ضمور وهدوء اعتاد عليها قبل الوظيفة.
عندما أبرز العالم السياسي روبرت بوتنام مفهوم رأس المال الاجتماعي، كان يحاول تفسير التدهور الحاصل في العلاقات الاجتماعية القائمة على التعاون وتبادل المنافع. ويلخص ما وصل إليه بأن رأس المال الاجتماعي في تدهور مستمر بدأ من الثورة الصناعية. نراه اليوم مع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، إذ يعج الواقع بكثير من المظاهر السلبية المتعلقة بهذا التأثير. ومن زاوية مختلفة، ينظر البعض لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي بشكل معاكس، إذ يرون أن مؤشرات رأس المال الاجتماعي مثل العلاقات الشبكية والرؤى المشتركة والثقة والعادات والقيم المتبادلة تتحسن بشكل كبير عن طريق مشاركة المحتوى المعرفي في وسائل التواصل الاجتماعي، وأن هناك تفاعلات جديدة بين مجتمعات كانت منعزلة سابقا تأثيرها العام إيجابي في رأس المال الاجتماعي، خصوصا ما يرتبط بالمعرفة المهنية والإنتاجية. وهذا مشاهد في شخص يعيش في قرية بعيدة، تجده يصنع اهتمامات جديدة ويهتم بمهارة يتعلمها ويرتبط بمجتمع مهتم يتفاعل معه ويستفيد من مشاركة القيمة المتبادلة بين أطراف هذا المجتمع.
وفي تفاعل آخر يثار نقاش مهم حول الموضوع من ناحية المنظمات، والشركات تحديدا، التي تنظر إلى مفهوم رأس المال الاجتماعي فرصة لتحسين علاقتها مع موظفيها وتخفيف بعض المخاطر المتعلقة مثلا بالاستقالات وفقدان المواهب، إضافة إلى أهمية الاستفادة من رأس المال الاجتماعي لتحسين الأداء ورفع المستوى المهاري والمعرفي للموظف. والخلاصة المهمة هنا هي أن القيادة الواعية لا تترك مؤثرات ومكتسبات رأس المال الاجتماعي للظروف، فهو مشابه لرأس المال الحقيقي، إذ لا بد من دراسته وتصميمه والتخطيط لأعماله وتفاعلاته بما يخدم المنظمة وأهدافها. وللممارسات هنا أهمية كبرى، خصوصا لواقع ما بعد كوفيد - 19، فالأثر السلبي للجائحة يتطلب جهودا إضافية لمعالجة واقع جديد مليء بالتباعد والعزلة.
من زاوية الفرد، أرى أن الوظيفة يجب أن تعزز من رأس المال الاجتماعي، ولا تهدمه. وهي أحد أهم المحاور التي يجب أن تعمل بطريقة تعوض ولو القليل من الفقد الذي يحصل بسبب التطورات والتغيرات التي نواجهها في حياتنا، تقنيا وصناعيا واجتماعيا، وتنمي الممارسات الاجتماعية التي تدفع باتجاه التعلم والتحسن. مهما أجبرتنا هذه التغييرات على القبول بواقع جديد ومختلف، وبغض النظر عما تقدمه أماكن العمل المتفاعلة وغير المتفاعلة بخصوص تنمية رأس المال الاجتماعي، يظل الفرد هو المسؤول الأول عن ثروته الاجتماعية.
تنمية رأس المال الاجتماعي مدخل للرضا والسعادة وتحقيق جزء من المعنى الحقيقي للحياة. والاستفادة من الوظيفة لتنميته شرط أساسي في واقعنا اليوم، خصوصا في ظل التباعد الاجتماعي خارج أماكن العمل. لهذه الأسباب، يظل الفرد المستثمر الأول والأساسي لشبكته وعلاقاته وتفاعلاته الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه المستفيد الأول من نتائج هذا الاستثمار التراكمي الذي تنمو قيمته مع مرور الوقت وتزداد عوائده وتتسع دائرة تأثيره.
إنشرها