Author

الشتاء الأوروبي وفائض التشاؤم على مستقبل الغرب

|
أستاذ جامعي ـ السويد
الشتاء وثم الشتاء وما أدراك ما الشتاء الفصل الذي يغطي ظلام الليل معظم ساعات النهار في أغلب دول القارة الأوروبية وتنخفض فيه درجات الحرارة ويكتسح الصقيع والثلج الأصقاع.
وللشتاء دوي في المحادثة والخطاب في اللغات الأوروبية والإنجليزية على الخصوص، وكما له استخدامات مجازية كثيرة في زمن الحروب والصراعات كالتي تعصف بالقارة الأوروبية حاليا.
لذا، لم أستغرب أن أرى زيادة مطردة في استخدام مفردة “الشتاء” أخيرا، ويبدو أننا كلما اقتربنا من الشتاء زاد ذكره وما يحمله من كآبة وتشاؤم وفأل نحس. والاستعداد للشتاء في أوروبا يبدأ مع مقدم آب (أغسطس)، الشهر اللهاب في كثير من دول الشرق الأوسط والبارد بعض الشيء في أوروبا والمؤشر لمقدم الشتاء.
في نهاية أغسطس تبدأ الخضراوات بالذبول في حديقة منزلي وأوراق الأشجار بالسقوط في السويد، ويقصر النهار حيث تغيب الشمس مبكرا ويتأخر شروقها حتى نصل إلى فترة قد تغيب فيها كليا لأشهر. حتى في الاستخدام اليومي، يكره الناس مفردة الشتاء وما يجلبه من ليل طويل. لذا يتغنى الشعراء في الإنجليزية مثلا بالصيف ويصفون لقاءاتهم مع المحبوب بيوم صيفي جميل.
وهذا يعاكس ما يتمناه مجانين الشعراء في العربية حيث اللقاء يكون مع هبوب النسيم العليل البارد في الليل.
تنطلق بلاغة اللغة من بيئة ومحيط وثقافة الناطقين بها. البيئة تشكل اللغة، واللغة تعكس البيئة، وعليه فإن الأحداث تشكلها اللغة واللغة تتشكل من الأحداث التي تقع في محيطها.
ففي الشرق الأوسط مثلا تدور سرديات أن الصيف، وأشهره كتموز (يوليو) وأغسطس، فترة اضطرابات وانقلابات وثورات. لا أعلم إن كان في إمكاننا التحقق من ذلك بأسلوب علمي رصين، غير أن هذا يبدو ما هو الدارج لدى السكان.
وفي أوروبا، يعلمنا التاريخ والتجربة أن الشتاء يجلب الاضطراب وأن المشكلات والصراعات تأخذ منحى عنيفا وشديدا بشدة البرد القارص، ويبدو أن كلما قصر النهار ومد الليل أجنحة ظلامه، اشتدت الأزمات.
وفي روسيا ومعها أوكرانيا، التي كانت في فترة من التاريخ جزءا من الإمبراطورية الروسية ووريثتها الاتحاد السوفياتي السابق، يلعب الشتاء دورا حاسما ومؤثرا في الحروب. والمصطلح الشهير “الجنرال شتاء” خير دليل حيث تعيده الصحافة إلى الأذهان في تغطيتها للحرب في أوكرانيا، لكن كل على ليلاه.
ما أود قوله إن مع قرب الشتاء في أوروبا وعدم وجود أفق لتوقف دوران رحى الحرب فيها، دخلت إلى حيز الخطاب أصوات تعبر عن رأي مخالف لوجهة النظر الواحدة التي التزم بها الإعلام الغربي وأظن مرغما وليس راغبا.
في الأشهر الأولى من الحرب، التي ساحتها الأراضي الأوكرانية والمتصارعون فيها روسيا من جهة والعالم الغربي بقيادة أمريكا من الجهة الأخرى، كان الخروج عن الرأي المفروض والسائد قد يرقى إلى العمالة والخيانة. فشيطنة روسيا وتحميلها وزر ما يقع من حرب وضحايا وتبعات اقتصادية ومعيشية كان بمنزلة الواجب المدرسي الذي يجب تنفيذه.
وصار اسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ألسنة ليس الساسة وأصحاب الشأن الذين أخذوا يرمون كل مشكلاتهم على كاهله فقط، بل حتى عامة الناس أصبحوا يلقون عليه باللائمة لارتفاع فواتير التدفئة والكهرباء وأسعار الوقود والمواد الغذائية.
حتى على مستوى بقال في دكان صغير، كانت اللازمة “اسأل بوتين” إن قلت لصاحب الدكان، “البارحة كان السعر كذا واليوم زاد كثيرا عن ذلك”. ففي الأشهر الأولى من الحرب التي قلبت الموازين ليس في أوروبا بل العالم أجمع، لم يكن مستساغا ومقبولا حتى مناقشة إن كان اتهام بوتين وروسيا لارتفاع الأسعار ولا سيما الطاقة والمواد الغذائية يستند إلى وقائع مثبتة وأدلة محكمة.
وبعد خمسة أشهر من حرب مريرة وتبعات مستعصية، بدأنا نقرأ ونسمع أن المواقف قد تحتاج إلى مراجعة وأن السياسيين ربما يخدعوننا. وبدأنا نقرأ خطابا لم يكن مألوفا منذ نشوب الحرب. وأغلب ما نقرأه ينطلق من أن الشتاء على الأبواب والأوضاع في حاجة إلى قراءة جديدة. ولم تعد روسيا ورئيسها بوتين ولم تعد الدول الخليجية المصدرة للنفط السبب في نقص توريد الطاقة وارتفاع أسعارها.
الغرب وسياسته يقع عليهما اللوم أيضا وليس روسيا أو الدول المصدرة للنفط التي ترفض أو لا تستطيع تلبية الطلبات الغربية الملحة بزيادة الإنتاج لخفض الأسعار، وهذا ما يحاول الإعلام تمريره وإن كان بصوت خجول. ونقرأ أن تخبط الغرب في سياسات فرض الحصارات دون تفكير في العواقب هو السبب الرئيس لشحة الطاقة والمواد الغذائية الأساسية وليس روسيا.
عندما تخرج دول كبيرة منتجة للنفط من السوق بسبب الحصار الغربي المفروض عليها، فلا بد أن يقل العرض وتزيد الأسعار، المعادلة الاقتصادية التي هي أساس الاقتصاد الرأسمالي، إلا أن الغرب لم يفكر في تبعاتها، وفق الأصوات هذه. الغرب يعاني فائضا في السياسات والإجراءات وفرض الحصار، ويعاني أيضا نقصا شديدا في أخذ التبعات والعبر والعواقب في الحسبان.
إنشرها