Author

عوالم مختلفة وواقع مشترك

|

من يعتد السفر يعرف تماما فكرة تغير السياق والأجواء والثقافة. من بلد إلى آخر، تتكرر أشياء وتختلف أخرى. سواء ما كان متأثرا بالدين أو الطبيعة أو الثقافة أو الاقتصاد، هنالك ما يزيد وهناك ما ينقص، والكل يستطيع الحكم على ذلك من منظوره الخاص به. لكن الأكيد أن الاختلافات موجودة، محمودة كانت أو مذمومة، في عالم غربي أم شرقي، بلد غني أو آخر فقير، مجتمع متحضر أو آخر متخلف. دائما ما نسمح لأنفسنا بملاحظة ذلك والتعليق عليه وربما تقييمه. والاختلافات أيضا موجودة ـ وبطرق مختلفة ومتشابهة ـ في المكان والزمان أنفسهما، أي في البلد ذاته، أي بلد.
قد تمر بعشرة أشخاص في الشارع، ربما كلهم يمتعض من شيء، لكن ستجد من يجد طريقه بين الفرص والتحديات وهو ساخط وآخر مقتنع وغيره متقدم مبتهج. هناك دائما تعبيرات متحيزة وواقع عادل، هو واقع ينحاز لمن يعمل له.
لو نظرنا إلى الوظيفة والمال وهما جانبان مرتبطان ببعض، بتعريف آخر، القدرة على إيجاد مصدر دخل والقدرة على الحفاظ على هذا الدخل، لوجدنا أن واقع الأفراد مختلف تماما حتى في البلد نفسه وفي المدينة نفسها كذلك. هناك دائما من يقعون على طرفي المقياس وهناك من يقع في مكان ما بين طرفيه، سواء كان البلد غنيا أو فقيرا. بالطبع يكثر الأثرياء في الدول الثرية وتكثر فرص الإنتاجية في الأماكن التي تحظى بالنمو، وتزداد التحديات فيما هو غير ذلك. كثيرا ما نتحدث عما نسميه "الواقع والظروف"، وهذا تصريح ـ أو تلميح ـ عن تصوراتنا لهذا المقياس الذي نتحدث عنه، في الأغلب بالمشاعر قبل الأرقام. لكن، الموضوع الأهم الذي يستحق الحديث هو فرصة الجميع في الانتقال من عالم إلى آخر، من مستوى معيشي إلى ما يليه، من وضع اقتصادي إلى وضع مختلف عنه. وهذا الموضوع يتطلب النظر في كلا الجانبين، الإيجابي والسلبي، أي فرص التحسن للظفر بها واحتمالات السقوط لتفاديها.
هناك من يتحدث أو يقرأ عن مسألة الثراء والطريق إليه، وهو حق لمن يريد استكشافه، لكن الطريق إليه دوما يأتي بعد الإجابة عن مسألة الإنتاجية والعطاء، أي العمل، سواء كان وظيفة محددة أو منح الوظائف للغير، مثل إنشاء الأعمال وتأسيسها. الانتقال من عالم إلى آخر، لا يكون بتجاهل الفروقات أو بإخفاء العيوب وكنس المشكلات تحت السجاد، أو بالحديث عن عناصر لا تحرك الواقع ولا تغير الوضع. الانتقال من عالم إلى آخر، يتطلب فهما للواقع المشترك، الواقع الذي يشمل مختلف الفرص والتحديات، الواقع الذي يؤكد بكل شواهده وللسواد الأعظم أن الفرص للجميع، فقط تبحث عمن يستحقها ـ عمن يعطيها قبل أن يطلب منها.
من يراجع ما يسمى أفضل الممارسات للوصول إلى الثراء، يجد أنها تبدأ دوما من الفكر ثم المهارة ثم التجربة ثم المهارة مرة أخرى ثم النجاح العملي ثم الاستثمار والنمو ثم الحفاظ على النمو. قد يختلف التوصيف لكن الترتيب، على الأرجح، لا يختلف. لهذا، من يحاول أن يستنبط المستقبل من واقعه، أو يعتقد أنه ببعض المتابعة المستمرة للأخبار سيملك عينا ثاقبة يحدد بها فرصه وفرص غيره المستقبلية، على الأرجح مجرد شخص يجيد اختيار الموضوعات التي تملك الجاذبية في المجالس، الواقعية أو الافتراضية!
تقدير العوالم المختلفة ذات السياقات والأجواء والثقافات المختلفة، التي تضعنا في احتمالات ونتائج مختلفة يتطلب إدارة للمستقبل. أي إن تقديرها بشكل جيد يجب أن يكون أولا للذات؛ للشخص والمدخلات والمخرجات المرتبطة به وتقديرا جيدا ومحسوبا للاحتمالات، وليس لتفسير سياق منقطع في واقع مؤقت لا يرتبط بالمصير. أي أمر لا يرتبط بالسعادة أو النجاح الذاتي أو الأثر الإيجابي الذي يصنع فارقا حقيقيا هو تشويش مرئي في مشهد صامت، أي أقرب للعمى. إدارة المستقبل تعني التركيز أولا على آليات القفز والارتقاء من مستوى إلى آخر، في الإنتاجية، في صنع القيمة، في العمل. وهذا يشمل بطبيعة الحال الفكر والمهارة، وهما ما يؤسسان لفهم العوالم المختلفة ويمكنان من الانتقال بينها صعودا. أما تمييز الاختلاف بالتذمر والسخط، فهذا لا يتطلب أي مجهود، أي جهل بموطن القصور ودمجه مع بعض الأحداث والأخبار الوقتية سيفي بالغرض.

إنشرها