أوروبا والشتاء الدافئ

هناك سعي حثيث وجاد من بعض دول أوروبا إلى حظر صادرات النفط الروسية، وإن كان هناك تباين واضح من الدول حول التعاطي مع هذا التوجه، فاعتماد دول أوروبا على النفط والغاز الروسيين متباين، حيث إن الدول الأقل اعتمادا على شرايين الطاقة الروسية هي الأكثر حدة وصرامة في المطالبة بإنزال أشد العقوبات الاقتصادية على روسيا، وفي مقدمتها حظر صادراتها النفطية.
الدول الأشد حاجة إلى منتجات الطاقة الروسية ورغم رغبتها في تضييق الخناق على روسيا، إلا أن هناك مصالح تغير موازين التعامل مع هذا الملف الحيوي، بل الوجودي، حيث تسعى هذه الدول جاهدة إلى التملص من هكذا قرارات وتبعاتها الاقتصادية التي لا تتحملها. في اعتقادي، أن إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا هي قضية معقدة جدا تحكمها عوامل اقتصادية وسياسية وجيوسياسية، بل اجتماعية، ومصالح ترتقي إلى أن تكون مصالح وجودية، لذلك نشاهد حاليا رغم الحرب الدائرة في أوكرانيا، إلا أن روسيا لم تقطع إمداداتها كليا من الطاقة إلى أوروبا، وفي المقابل لم تستطع أوروبا الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية المختلفة، وعلى رأسها الغاز، بلا شك. ملامح أزمة الطاقة في أوروبا لم تظهر حاليا، بل بدأت الظهور قبيل العملية الروسية في أوكرانيا عندما تحركت أرتال من الجيش الروسي إلى الحدود الأوكرانية، وأدت هذه التحركات إلى ارتفاع أسعار الطاقة لمستويات مرتفعة خشية من تأثر سلامة إمدادات الطاقة عبر شرايين الطاقة الروسية. روسيا ثاني منتج للنفط الخام في العالم بنحو 11 مليون برميل يوميا، وبصادرات تبلغ نحو سبعة ملايين برميل يوميا، وهي أيضا أكبر مصدري الغاز في العالم بما يقارب 238.1 مليار متر مكعب، بفارق كبير عن أقرب منافسيها الولايات المتحدة، التي تحل في المرتبة الثانية بنحو 137.5 مليار متر مكعب.
هذا يبرر سلوك أسواق الطاقة وارتفاع الأسعار، فالحديث هنا ليس عن سلامة إمدادات الطاقة لكميات غير مؤثرة من النفط والغاز، خصوصا إذا ما علمنا أن جل هذه الصادرات هي من نصيب أوروبا التي يتباين اعتماد دولها على شرايين الطاقة الروسية بين اعتماد خفيف يمكن التعامل مع تبعات توقفها، وبين اعتماد شبه مطلق لا يمكن لصانعي القرار تجاهله أو التعاطي معه دون الإضرار باقتصادات دولهم. من أهم مؤشرات أزمة الطاقة الأوروبية عودة بعض الدول الأوروبية إلى استخدام الفحم في توليد الطاقة، ضاربين عرض الحائط بالوعود والعهود لحماية البيئة من أضرار انبعاثات الوقود الأحفوري.
وفي رأيي، أن تغير موقفهم ليس مستغربا ولا مستهجنا، لكن الغريب والمستهجن فعلا انتقاداتهم وإلقاء التهم جزافا على الدول التي تعمل لمصلحتها وتراعي البيئة وسلامتها بتوازن موضوعي، وحكمة في استشراف مستقبل الطاقة العالمي وسلامة إمداداته. الشد والجذب السياسي بين روسيا من جهة وأوكرانيا وحلفائها من جهة على قدم وساق، وكل من الفريقين يستخدم بعض أوراقه السياسية والاقتصادية ويخفي بعضها، لكن - في رأيي - أن اقتراب فصل الشتاء سيضغط على أسواق الطاقة، خصوصا الغاز الذي تعتمد عليه أوروبا بصورة كبيرة في هذا الفصل، ما سيؤثر في الأفراد والمصانع، وبالتالي أسعار المنتجات والخدمات. أتوقع أن المرحلة المقبلة هي أقرب للانفراج من التعقيد، ولعل شتاء هذا العام سيكون دافئا على الأوروبيين!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي