default Author

العقوبات الاقتصادية والصدمات العالمية «3 من 3»

|
أدت الصدمة الناجمة عن الكساد العظيم إلى تقويض جانب كبير من الثقة والتعاون اللذين أسهما في دعم الاستقرار السياسي الدولي. وتصاعدت حدة الحروب التجارية لتتحول إلى نزاعات دبلوماسية، ما أدى إلى ظهور توجه نحو تكوين تكتلات سياسية واقتصادية. وكان لزاما على عصبة الأمم باعتبارها الكيان المنوط بحفظ النظام في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، إنفاذ العقوبات ضد الدول التي تهدد السلام العالمي. واتضح من العقوبات أن القوى الغربية تشكل ثقلا كبيرا في الاقتصاد العالمي. غير أن الأوضاع المعاكسة التي سادت حقبة الكساد وانعدام التعاون المالي والنقدي بين الدول كانا دليلا على أن العقوبات تسببت في توترات إضافية ولم تنجح في المحافظة على السلام في نهاية المطاف.
ويتضح من التاريخ خلال الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين أن البيئة الاقتصادية العالمية تحدد الصيغة المحتملة للعقوبات وتشكل تأثيرها. وقد شهدت حقبة الكساد أزمة زراعية وانهيار النظام النقدي وتراجع التجارة. ونتيجة لهذه التطورات، تراجعت الصادرات العالمية، وتفككت تكتلات العملة، وانخفضت الأسعار العالمية خلال الجزء الأكبر من الفترة ما بين عامي 1928 و1939. ومن ناحية أدى ذلك إلى تراجع أرباح التصدير، وانخفاض تكلفة انقطاع الروابط الاقتصادية أيضا. لكن من الناحية الأخرى، انخفضت أسعار الواردات لتضمن بذلك فرصة مستمرة للحصول على الاحتياجات الأساسية من المعادن والغذاء والطاقة. وفي الوقت الذي استخدمت فيه العقوبات، كان العالم يشهد درجة متزايدة من الاكتفاء الذاتي، وتراجعا في الاعتماد المتبادل بين الاقتصادات الوطنية إلى الحد الأدنى الضروري. لذلك، فإن عقوبات الثلاثينيات لم تتسبب سوى في أضرار طفيفة لاقتصاد عالمي محطم بالفعل. لكنها هددت معيشة المواطنين على نحو تطلب تصعيدا عسكريا. وعلى العكس، نجد أن نسبة التجارة العالمية إلى إجمالي الناتج المحلي أعلى كثيرا في الوقت الحالي، مدعومة بنظام مالي عالمي قائم على الدولار يتسم بدرجة كبيرة من التكامل. وبدلا من انخفاض الأسعار، تشهد الأسواق العالمية في الوقت الحالي ضغوطا تضخمية هائلة. وتنشأ عن ارتفاع أسعار السلع الأولية أرباح استثنائية في الدول المصدرة، بينما تشجع الاقتصادات المستوردة للطاقة على التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة. وفي الوقت نفسه، ازداد التكامل بين الأسواق المالية، ما يجعل التدفقات الرأسمالية من الاقتصادات المتقدمة عاملا أساسيا للنمو والاستثمار في اقتصادات الأسواق الصاعدة والنامية. وبفضل هذا التعاضد، يتمتع الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي بمكاسب هائلة، حيث تتيح التجارة فرص عمل لنسبة أكبر من القوة العاملة، وأصبح بالإمكان الحصول على الواردات من عدد أكبر من المصادر. لكنه يواجه مخاطر متزايدة نظرا لإمكانية اختناق النقاط المحورية في تدفقات السلع الأولية والمعاملات المالية والتكنولوجيا بسبب المشكلات التي تواجه سلاسل الإمداد، أو استهدافها من خلال العقوبات الحكومية.
نتيجة لهذه التغيرات، يمكن أن تتسبب العقوبات حاليا في خسائر تجارية أكبر من أي وقت مضى، وإن كان يمكن التخفيف من وطأتها من خلال تحويل مسار التجارة أو العزوف عنها. وفي الوقت نفسه، لا تشكل العقوبات في العصر الحديث تهديدا مباشرا بقدر ما كان عليه الحال في الثلاثينيات، ما يحد مخاطر التصعيد العسكري. غير أن زيادة التكامل بين الأسواق أفسحت المجال لانتشار الصدمات الناجمة عن العقوبات عبر مختلف أجزاء الاقتصاد العالمي. وهكذا، فقد أدت العولمة خلال القرن الـ21 إلى زيادة التكلفة الاقتصادية لاستخدام العقوبات ضد الاقتصادات الكبرى التي تتمتع بقدر كبير من التكامل فيما بينها، كما أتاحت لهذه الدول فرصة أكبر للثأر من خلال الروابط الاقتصادية والتكنولوجية بدلا من التدخل العسكري.
إنشرها