Author

الفائدة دواء يظل مرا

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يجب أن يقود الاقتصاد لتفادي الركود"
جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية
يبدو واضحا، أن العناد الذي أبداه المشرعون الاقتصاديون الأمريكيون بشأن الفائدة العام الماضي تحول هذا العام إلى انصياع تام للحقيقة المرة. كان هؤلاء يعتقدون أن التضخم على الساحة الأمريكية ليس خطيرا بما يكفي لرفع الفائدة، وأن الاقتصاد يمكنه التعايش مع هذه الآفة المرحلية، للمحافظة على وتيرة النمو، وعوائد حزم الدعم الكبرى التي قدمتها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. لكن الموجة التضخمية العاتية أظهرت لهم أن توقعاتهم ليست صحيحة ومعاندتهم للحقائق الموجودة على الساحة لم تكن سوى مكابرة تشبه إلى حد بعيد تلك التي لا يزال البنك المركزي الأوروبي يبديها في التمسك بعدم رفع الفائدة، للسبب ذاته، وهو المحافظة على النمو قدر الإمكان، حتى في ظل الضغوط الاقتصادية التي جلبتها الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.
ماذا حدث على الساحة الأمريكية؟ ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له منذ أربعة عقود، ولا توجد (عمليا) آلية تكبح جماحه سوى رفع الفائدة، بصرف النظر عن الآثار الجانبية السلبية لمثل هذه الخطوة. فللأدوية العلاجية آثارها السلبية دائما، وهي تتفاوت بين مرض وآخر، أو بين علة سطحية وأخرى أكثر عمقا. في ظل هذه الحالة المتفاقمة لم يكن أمام المجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي" إلا رفع الفائدة بنسبة نصف نقطة مئوية، وهي الأعلى على الإطلاق منذ أكثر من 22 عاما. فهو قبل شهرين تقريبا رفعها بمعدل ربع نقطة مئوية، إلا أن الموجة التضخمية أكلتها بعد أن دمرت آثارها في فترة بسيطة. وقد ثبت أن المعاندة في حالة متغيرة تشبه بالضبط ذاك الذي يضرب رأسه في الجدار للتخلص من الصداع.
رفع الفائدة الأمريكية أضاف مزيدا من الإرباك للمشهد الاقتصادي العالمي تماما مثلما حدث على الساحة المحلية الأمريكية. كان لا بد لأغلب البنوك المركزية أن تقوم بذلك، بينما تعاني دولها أصلا ضغوطا لا تنتهي من التضخم الذي بلغ في بلد كبريطانيا أعلى مستوى له منذ أكثر من ثلاثة عقود. فالحديث في الدول المتقدمة خصوصا لم يعد يرتكز فقط على كبح جماح التضخم، بل على الحد من الانكماش الاقتصادي الذي عاناه العالم بالأمس القريب من تداعيات تفشي جائحة كورونا. الحرب في أوكرانيا عمقت الجرح الاقتصادي أكثر، لتتحول إلى عامل آخر للاضطراب الاقتصادي الدولي، إلى جانب الصراعات المتفاقمة وتداعيات التغير المناخي والأزمة التي وقعت فيها سلاسل التوريد، فضلا عن معارك تجارية لا تزال بذروها موجودة في الميدان.
بالطبع، تجعل زيادة الفائدة الاقتراض أكثر تكلفة على الشركات والأفراد والحكومات، وستتحول كميات هائلة من الأموال إلى الإيداعات لتحقيق العوائد من الفائدة المرتفعة. والهدف الأهم من ذلك يبقى محصورا في تخفيف الطلب على السلع والخدمات والمشتريات عموما، ما يساعد على تخفيف تضخم الأسعار. وهذه الأخيرة ولدت امتعاضا شعبيا كبيرا، حتى إنها أعادت إلى الأذهان الاضطرابات الشعبية التي حدثت في غير بلد في السابق بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، فضلا عن خوف الأحزاب الحاكمة على مصيرها الانتخابي. ففي الانتخابات المحلية الأخيرة في بريطانيا (مثلا) خسر حزب المحافظين الحاكم ثلث مقاعده فيها، في حين أظهرت الاستطلاعات في الولايات المتحدة تدني شعبية الرئيس بايدن، رغم كل الحزم المالية الداعمة التي أطلقتها منذ وصوله إلى البيت الأبيض.
مع الزيادة الجديدة للفائدة، تبقى المهمة على الساحة الأمريكية صعبة للغاية. لماذا؟ لأن المسؤولين وضعوا حدا أعلى للتضخم حيث لا يتجاوز 2 في المائة، في حين يبلغ اليوم نحو 9 في المائة. هذا المسار لعلاج المسألة لا بديل له، رغم أنه ضيق جدا. ولذلك، فإن الخوف على النمو تحول إلى الرعب من الانكماش الذي قد يستمر إلى نهاية العام المقبل، في الوقت الذي كان فيه العالم يعيش فرحا اقتصاديا من عودة النمو إلى الساحة في أعقاب كورونا وتداعياته. والمهمة الآن باتت في نطاق الحد من الانكماش قدر المستطاع، أو التخلص منه بأسرع وقت ممكن، إن كان ذلك متاحا أصلا. والمؤكد أن الفيدرالي الأمريكي سيقدم إلى رفع تدريجي آخر للفائدة قبل نهاية العام الجاري، بحسب القائمين عليه، ما يزيد اضطراب المشهد الاقتصادي المحلي والدولي، على اعتبار أن الدولار الأمريكي يبقى عملة الاحتياطي العالمي.
ويبدو واضحا، أن تأخر المشرعين في الإقدام على رفع الفائدة عمق المشكلة أكثر، وهذا التلكؤ ينسحب في الواقع على أغلب البنوك المركزية الرئيسة، ولذلك فقدت جرعات الفائدة جزءا في فاعليتها، لأنها لم تؤد إلى وقف التضخم، بل كل المؤشرات تدل على أن هذه الآفة ستتواصل في تعزيز وجودها على الساحة الاقتصادية، في وقت يحتاج فيه العالم إلى أي قوة دفع ليس فقط لتحقيق النمو، بل لتعويض الخسائر التي مني بها بسبب كورونا ولمواجهة الأضرار المتوالدة حاليا من حرب روسية - أوكرانية، هي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية.

إنشرها