Author

التفسير الاقتصادي بين العقل والنقل

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا

لا يوجد تعريف متفق عليه لعلم الاقتصاد economics، كما يدرس في جامعات العالم. لكنه إجمالا يقوم على محاولة فهم السلوك، بما في ذلك الدوافع والأسباب والتأثيرات والنتائج في التصرفات والوقائع الاقتصادية، مستخدما منهجية علمية ذات طبيعة تطبيقية - المقصود ترجمة للعبارة Scientific method - قدر الإمكان. ولنسمها اختصارا بالعقل. وقد انتقد منتقدون هذا المنهجية في الفهم والتفسير. والمثال التالي يوضح مستند هذا الانتقاد. جاء في صحيح البخاري أن لصلة الرحم تأثيرا حسنا في الرزق والعمر. لكننا لن نصل إلى هذه التأثير باستخدام علم الاقتصاد. ولهذا يرى بعض الكتاب في أحكام التصرفات الاقتصادية، أو ما يسميه البعض الاقتصاد الإسلامي أن منهجية علم الاقتصاد الذي يسميه بعضهم الاقتصاد الوضعي، غير مقبولة إسلاميا. فما مدى موضوعية وصواب ما يقولونه؟
ينبغي أن تكون العلاقة بين العقل الصريح والنقل الصحيح تكاملية وليست بدلية.
الاعتراض على منهجية علم الاقتصاد ينطبق على كل العلوم التي تدرس في جامعات العالم، كالفيزياء والكيمياء وعلم النفس وعلوم الطب والهندسة والزراعة والإدارة والتربية.. إلخ. فعلى سبيل المثال، طالب الطب لا يدرس في مدرسة الطب أن لصلة الرحم تأثيرا في العمر.
في صحيح البخاري كتاب البيوع، باب: من أحب البسط في الرزق، أخرج البخاري بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه. ينسأ بضم أوله أي يؤخر، قوله (في أثره) أي: في أجله.
التعبير بمن أحب البسط في الرزق، والتأخير في الأجل، فليصل رحمه، تعبير نبوي، لا يجوز نفيه ولا مخالفته، لكن في الوقت نفسه، يجب أن نعرف أن هذا لا ينافي فعل الأسباب المادية المؤدية - بتوفيق الله - إلى بسط الرزق وإطالة العمر.
وهناك نصوص أخرى كثيرة وردت في المرض والشفاء والعلاج، لكن طلاب الطب لا يدرسونها. وكونها كذلك لا يعني بالضرورة خطأ ما يدرسونه، أو أنه غير مقبول إسلاميا.
ولذا فإني حقيقة لم أفهم الاعتراض على كون الكون مصدر المعرفة في علم الاقتصاد، وأنه غير مقبول إسلاميا. لو كان الاعتراض مقبولا لحق لنا أن نعمم القاعدة، ونعد كل العلوم من علم نفس وكيمياء وفيزياء وعلوم طب وصيدلة وهندسة وزراعة وحاسب وإدارة أعمال ومحاسبة ونظم معلومات وغيرها نعدها كلها غير مقبولة إسلاميا، لأنها أسست على اعتبار الكون مصدر المعرفة، ومن ثم فهي خاطئة. لكن لو قيل إنه لا يكفي، ولا يصح الركون إلى الكون وحده لكان أوضح وأصوب. ذلك لأن ما تتوصل إليه العلوم الطبيعية أو الاجتماعية التي شهد لها الحس أو العقل شهادة قـاطـعــة أو قام عليها دليل راجح هي مما يعد - بميزان الشرع - علما يعمل به. والإيمان بما تتوصل إليه هذه العلوم أمر مشترك بين البشر، بغض النظر عن الديانة.
وقضى الشرع بأن كـل الحقـائـق - ديـنـيـة كـانــت أم دنيوية - يكتسبها الإنـســان بحسه وعقله. ومن ذلك قوله سبحانه: «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون» (النحل، 78).
وإذا كان المنهج الساينسي (العلمي) يقوم على الافتراضات السابقة، فإنه يجب التسليم أيضا بأن الله على كل شيء قدير، وأن هناك مؤثرات وأسبابا تدرك بالوحي وليس الكون. لكن يجب التنبه إلى أن الإيمان بالغيب لا يعني إنكار تأثير الوقائع الطبيعية والنفسية والاجتماعية. فمثلا كان من أسباب انتصار المسلمين في بدر عوامل كونية - تخضع لدراسة الساينس أي العلوم - كاختيار مكان نزول الجيش، لكن هذا لا ينبغي أن ينفي تأثير الدعاء مثلا.
ووردت نصوص كثيرة تدل على الأخذ بالأسباب، قال الله تعالى «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل»، «وليأخذوا أسلحتهم ... وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم»، «وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى وأن سعيه سوف يرى»، «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»، «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم». والأخذ بالأسباب هو هدي سيد المتوكلين على الله، صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا أشير إلى حديث اشتهر على ألسنة الناس، وهو ما رواه أنس بن مالك - رضى الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أعقلها وتوكل" رواه الترمذي وحسنه الألباني. ومعنى الحديث واضح وصحيح، فمن علم أحدا كيف يتصرف استنادا إلى العقل والعلم التجريبي، فقد علمه شيئا صحيحا مفيدا، ومن ثم فهو مقبول إسلاميا، لكنه لم يعلمه كل المطلوب، إذ هناك الجزء الغيبي القدري، وقرر علماء الإسلام - رحمهم الله تعالى - أنه لا تعارض بين السببية والقدر، ولا تعارض بين العقل والنقل. ويمكن لمن يرغب في الاستزادة الاطلاع على بعض ما كتبه هؤلاء الأئمة في هذا المجال، وهو كثير جدا. وللإمام ابن تيمية كتاب نفيس "درء تعارض العقل والنقل".
وأشير بالمناسبة إلى نقطة. علم الاقتصاد، كأي علم بشري، ليس علما كاملا. لكن تحميله مسؤولية الفشل في حل مشكلات اقتصادية، يشبه - على سبيل المثال - تحميل تخصصات الطب أو الهندسة أو التربية مسؤولية الفشل في حل مشكلات صحية أو هندسية أو تعليمية.

إنشرها