عملات رقمية مركزية

"لا بد من التحرك السريع من أجل الموافقة على لائحة للعملات المشفرة"
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي
لا تزال ساحة العملات المشفرة مليئة بالشكوك وعدم اليقين، رغم مرور 13 عاما على إطلاق أول عملة منها. ويبدو واضحا أن المشرعين حول العالم لا يزالون مترددين في اتخاذ مواقف حاسمة تجاهها، أو صياغة تشريعات واضحة حيالها، بصرف النظر عن التصريحات العلنية التي تصدر من هذا البنك المركزي أو ذاك، التي صارت تتحدث عن عملات رقمية وطنية أكثر مما تتناول وضعية العملات المشفرة الموجودة حاليا في الميدان المالي، التي يفوق عددها 4100 عملة. وقيم هذه العملات متفاوتة بشكل هائل، وتتأرجح بين عشرة سنتات أمريكية و45 ألف دولار. وفي أعقاب اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، باتت الأصوات تعلو من جانب بعض المسؤولين ولا سيما في أوروبا، بضرورة وضع لائحة تنظيمية سريعة للعملات المشفرة كلها، في ظل المخاوف من استخدام موسكو لها للتهرب من العقوبات الهائلة المفروضة عليها.
وبصرف النظر عن هذا الجانب المرحلي، تبقى العملات المشفرة حتى اليوم خارج نطاق السيطرة والرقابة. البرلمان الأوروبي يعمل حاليا على مشروع قانون يحمل اسم "أسواق الأصول المشفرة" أو MECA لتنظيم تعاملات العملات المشار إليها، علما بأن الدافع الأول لهذا التوجه كان الخوف من استخدام روسيا هذه العملات، بينما يسعى الغرب إلى خنق موسكو ماليا. وفي كل الأحوال، يبدو واضحا أن الأوروبيين يسيرون نحو موقف واضح من هذه المسألة، في حين أن بقية الدول لا تزال في مرحلة التفكير، ليس فقط في وضع القوانين والتشريعات، بل في مسألة إطلاق عملات رقمية خاصة بها. فقد أعلنت الولايات المتحدة أخيرا أنها تخطط بالفعل لإطلاق الدولار الرقمي، لكنها لم تحدد موعدا لمثل هذه الخطوة.
وفي الفترة الماضية، أقدمت مجموعة من المؤسسات العالمية الكبرى للإعلان أنها ستقبل التعامل بالعملات المشفرة، بما في ذلك شركة تيسلا لصناعة السيارات الكهربائية، و"ديل" المصنعة لأجهزة الكمبيوتر، حتى مطاعم الوجبات السريعة مثل "كنتاكي"، إلا أنها سرعان ما تخلت عن مثل هذه المبادرات، التي عدها بعض الجهات المؤثرة غير واقعية، خصوصا فيما يتعلق باستخدامها في عمليات الشراء اليومية. لماذا؟ لأنها تبقى من الأصول المتقلبة، كما أن تكلفة صرفها باهظة، إلى جانب أن معالجتها تستغرق وقتا، لن يقبل به من يشتري وجبة سريعة أو سلعا استهلاكية ما. ويؤكد الخبراء في هذا المجال، أن الأمر يستغرق 30 دقيقة على الأقل. كل هذه المبادرات لم تكن واقعية وكانت أقرب إلى فقاعات وفرت قوة دفع آنية للعملات المشفرة عموما.
ولا شك أن الناس الذين يمتلكون عملات مشفرة ولا سيما عالية القيمة منها، يتعاطون معها كأداة استثمارية أكثر من كونها وسيلة دفع، خصوصا أنها معرضة للارتفاع الكبير، وأحيانا للانخفاض الكبير أيضا، وهذا التقلب يجلب المخاطر، وفي الوقت نفسه يفرض ضغوطا أخرى جديدة على البنوك المركزية حول العالم لدفع حراكها نحو تنظيمها بقوة أكبر، دون أن يتعارض ذلك مع مخططاتها لطرح عملاتها الرقمية الخاصة بها. الصين أطلقت بالفعل اليوان الرقمي، وإن فرضت استخدامه في حدود ضيقة في المرحلة الأولى، واستخدم بالفعل خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، كنوع من الاختبار. وتسعى بكين لتحقيق قفزة نوعية في هذا المجال في مدة زمنية قصيرة، لتسجل نقاطا لمصلحتها أمام بقية الدول الأخرى، ولا سيما المتقدمة التي ما زالت مترددة أو بطيئة في حسم أمرها.
هناك عشرات الأسئلة حول أهمية إطلاق البنوك المركزية عملاتها الرقمية، لكن من الواضح أن مثل هذه العملات صارت حاجة ملحة وسط توسع نطاق سوقها. فوفق التقديرات، هناك أكثر من 100 مليون شخص في العالم يستخدمون الرقمية، خصوصا تلك التي أثبتت حضورها على الساحة، حتى إن دولة مثل السلفادور اعتمدت بالفعل عملة بيتكوين قانونيا، بصرف النظر عن معارضة صندوق النقد الدولي لهذه الخطوة. كما أن قيمة العملات الرقمية المتداولة حاليا تقدر بنحو تريليوني دولار. أي: إن سوقها كبيرة للغاية، وتنتشر بصورة سريعة أيضا، رغم كل المخاوف حول الاستثمار فيها أو التعامل بها بسبب تقلباتها، فضلا عن غياب الرقابة المالية المركزية عليها. وعلى هذا الأساس، ليس أمام البنوك المركزية سوى أن تدخل هذه السوق بأسرع وقت ممكن، وتسجل تقدما فيها، وتحقق المكاسب والسمعة المطلوبتين لها.
في الفترة المقبلة ستكون هناك تحولات كبيرة في سوق العملات المشفرة عموما، سواء من خلال التشريعات التي تستعد أوروبا لإطلاقها، أو عبر مبادرات من مؤسسات كبرى لاعتماد هذا النوع من العملات. والمخططات الأمريكية لإطلاق الدولار الرقمي، سترفع زخم حراك البنوك المركزية حول العالم لتقديم عملاتها الجديدة المماثلة، في الوقت الذي يتعزز فيه وجودها بالساحة التجارية الدولية. ولا شك أن العملات العائدة للبنوك المركزية ستدفع السوق إلى مزيد من الاستقرار، وترفع مستوى الأمان في هذه السوق المتقلبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي