فقاعات تتشكل
هناك من يجادل بأن أسعار الأوراق المالية والسلع واتجاهات الفائدة يمكن التنبؤ بها بدرجة كبيرة من الثقة، على أساس من فرضية كفاءة السوق، التي قدم لها الاقتصادي الشهير فاما Fama، وهناك من يرفض هذه الفرضية باعتبار أن الأسواق ليست بالكفاءة الكافية لكي تمكن مجتمع المستثمرين من التنبؤ. المسألة الشائكة في كل هذا أن الجميع يعتقد أن الأسواق تعد أفضل وسيلة لتخصيص الموارد الاقتصادية بشكل كفء، لذلك يمضي العلماء المتخصصون جهودا كبيرة لإثبات أي الفرضيتين أصدق، وبين هذه الفرضيات والدراسات تمضي الأسواق فيما يشبه الهوس الذي ينتقل كما الحمى بين السلع، فمن ارتفاع أسعار أسهم شركات التقنية في نهاية التسعينيات إلى الأزمة العقارية نهاية العقد الأول من القرن الحالي، واليوم نعيش الهوس بالعملات المشفرة، والرموز غير القابلة للاستبدال في مجال الفن الحديث. وفي مقابلة أجرتها صحيفة "نيويوركر" الأمريكية مع الاقتصادي الأمريكي فاما، صاحب فرضية "السوق المالية" وذلك بعد الأزمة المالية العالمية، حينما واجهت فرضية "كفاءة الأسواق المالية" هجوما عنيفا، عندها سئل فاما عن الفقاعات التي تصيب الأسواق؟ فأجاب بأنه لا يعرف معنى هذه الكلمة في سياق اقتصادي. لكن رغم هرب فاما من الإجابة، فإن معظم الناس يعتقدون بوجود الفقاعات عندما تتعاظم أسعار الأصول بشكل لا يمكن تفسيره، وفق قواعد التحليل المالي الأساسية. يرد فاما على ذلك بأنه لا أحد يعرف أن الأسعار مرتفعة حتى تنهار بعد ذلك، وهنا تكون المعرفة صادقة 100 في المائة، لكن قبل ذلك فإنه لا أحد يمكنه أن يؤكد ما إذا كانت الأسعار عادلة أو غير ذلك. ما يعتقده بعض المختصين أن انهيار الأسواق في الأغلب ليس بسبب الفقاعات بل هو انعكاس لأزمة اقتصادية وليس العكس، فانهيار سوق السندات العقارية والرهون في الولايات المتحدة لم يكن بسبب المضاربات والفقاعة، بل بسبب الركود الكبير الذي سبق ذلك، بحيث لم يتمكن الناس من سداد أقساط الرهن العقاري، وهذا تسبب في أزمة الائتمان، ولولا الركود لاستمرت السوق في الارتفاع. وهذا يقودنا إلى مفهوم "السير العشوائي" random walk، وهو مصطلح يصف سلوك التغيرات في الأسعار، بحيث تصبح جميع تغيرات الأسعار اللاحقة انحرافات عشوائية عن الأسعار السابقة. والفرضية الكامنة خلف هذا التنظير أنه إذا كان هناك تدفق لكل المعلومات المتاحة اليوم دون معوقات فإن الأسعار ستعكس هذه المعلومات فورا، وفي اليوم التالي هناك معلومات جديدة لم تكن معروفة لأحد من قبل، ما يعني أن الأسعار ستتغير بطريقة غير متوقعة وعشوائية بحسب هذه المعلومات.
وعلى الرغم من وجاهة هذه الفرضيات إلا أن هناك كثيرين ممن يرون عدم كفاءة الأسواق، بمعنى أن الأسعار لا تعكس كل المعلومات المتاحة بالصورة نفسها، بسبب أن معلومات اليوم قد سربت بالأمس، وهو ما يسمي الاتجار بالمعلومات الداخلية، بسبب الاعتقاد المتزايد بأن أسعار الأسهم والسندات وأسعار الفائدة والذهب يمكن التنبؤ بها جزئيا على الأقل، بدراسة العناصر النفسية والسلوكية لسعر السهم وأنماط الأسعار السابقة.
ويشير الخبراء - وفقا لتقرير نشرته "الاقتصادية" في هذا الشأن - إلى أن المضاربين يستخدمون استراتيجيات تعتمد على هذه الأنماط وتوقع تحركات الأسعار في المستقبل، وهذا عدل من استراتيجيات المستثمرين الذين لم تعد لهم رغبة في انتظار العوائد طويلة الأجل بل غير المؤكدة أحيانا، وبدلا من ذلك يتم شراء الأصول لفترات قصيرة من الزمن لأجل تحقيق الربح من التغيرات في الأسعار، ومن ثم فهم ليسوا مقامرين، إنما يعتمدون على أنماط متكررة في السوق. لكن الانتقادات الأساسية لهذا السلوك تأتي من جانب الإفراط في التقييم سلبا أو إيجابا، والزيادات الهائلة في الأسعار، وينتهي الأمر بفقاعات اقتصادية، تواجه بانفجار في نهاية المطاف، وخسائر محتومة لصغار المتداولين. وللجمع بين وجهات النظر فإن المشكلة ليست في الإفراط في التقييم بل في إفراط البنوك في ضخ تريليونات الدولارات، ما أوجد سيولة مالية ضخمة سمحت للأفراد بالمضاربة بقوة في قطاعات اقتصادية متنوعة، وإذا تزامن ذلك مع انخفاض سعر الفائدة - ما يتيح الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة والمضاربة عبر الأموال المقترضة لسداد الفائدة وأصل رأس المال المقترض - فإن الإفراط في التقييم يأتي نتيجة لكل هذه المظاهر، وليس هو المسبب لها، كما أن المضاربات في الأسواق ليست شرا بل هي تضمن بقاء الأسواق نشطة، لكن التحدي هو في إبقاء هذه المضاربات مفيدة. في هذا يقول بعض الخبراء "إنه ربما يكون إصلاح النظام الضريبي من بين تلك الخطوات، فإنشاء نظام ضريبي عادل على مكاسب رأس المال، التي تتحقق نتيجة التصرف السريع في الأصول، مع منح ما يقارب الإعفاء الضريبي للحيازات طويلة الأجل، من شأنه أن يحد بشكل ملحوظ من الاستثمارات غير الاقتصادية". هذه وجهات نظر جديرة بالدراسة والتأمل، طالما نريد إبقاء الأسواق في أمان، بعيدا عن الانهيارات وانفجار الفقاعات.