باستحواذات أكثر شراسة .. بزوغ نجم الشركات المتوسطة يغير المشهد العالمي لقطاع الأدوية
من أكثر الأمثال العربية شهرة وشيوعا المثل القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد"، وربما لا ينطبق هذا المثل على قطاع اقتصادي في الوقت الراهن بقدر انطباقه على شركات الأدوية، التي تعد الرابح الأكبر من جائحة كورونا.
في 2019 أجرت مؤسسة جالوب الشهيرة استطلاعا للرأي بين المواطنين الأمريكيين، يطلب منهم ترتيب أكثر 20 قطاعا اقتصاديا كبيرا يرغبون في العمل به، كانت النتيجة أن شركات الأدوية احتلت المرتبة الأخيرة في الاستطلاع، وفي العام ذاته كان رؤساء مجالس إدارات شركات الأدوية والتبغ الأكثر عرضة للهجوم والانتقاد الشديد والمتواصل من أعضاء الكونجرس، إذ كان هناك قناعة سائدة بأن شركات الأدوية تبالغ في تحديد أسعار منتجاتها من الأدوية والعقاقير، واتسع نطاق الانتقادات التي تتعرض لها شركات الأدوية، بعد أن كشف عدد من الباحثين أن الشركات الكبرى في هذا المجال تنفق على التسويق أكثر من إنفاقها على البحث، وأنها لا تنتج عقاقير جديدة في حقيقة الأمر، بل تعمل على تحسين أداء المتاح من الأدوية، وتركت تلك الانتقادات بصمات سلبية على أسعار أسهم شركات الدواء الدولية.
الآن المشهد تغير تماما، إلى الحد الذي دفع ألبرت بورلا رئيس شركة فايزر للأدوية إلى القول إن "المستحيل يمكن أن يصبح ممكنا"، وذلك في إشارة إلى وضع شركات الدواء قبل الجائحة والآن حيث حققت ثروات طائلة نتيجة وباء كورونا.
وتبلغ الإيرادات العالمية لسوق الأدوية 1.2 تريليون دولار، ومع وجود رأس مال بهذا الحجم على المحك، فإن الصناعة لا يوجد أمامها إلا تبني التقنيات الجديدة، بما يتضمنه ذلك من مزيد من الاندماج مع الاقتصاد الرقمي، إلا أن تلك العوائد المالية الضخمة لا تنفي أن الصناعة تواجه تحديات ضخمة.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" الدكتور إم. ارسل الباحث في مجال العقاقير، إن "صناعة الأدوية كانت دائما صناعة محورية واستراتيجية، لكن أهميتها على المستوى الحكومي والشعبي زاد في العامين الماضيين نتيجة وباء كورونا، هذا الوضع المركزي سيستمر لبعض الوقت، وتفشي وباء كورونا لم يسهم فقط في زيادة عائدات عديد من شركات الأدوية، بل عزز سمعتها، وجعلها أكثر قبولا وشهرة وشعبية، وأيضا أكثر مركزية في السياسات الحكومية، وخفف الضغوط التي تتعرض لها فيما يتعلق بالإنفاق، ورواتب العاملين".
وأضاف قائلا "هناك عديد من التحديات ستواجه شركات الأدوية، لكن نمو السوق وتوسعها ليس واحدا منها، فالإحصاءات والأرقام المتاحة تشير إلى توقع زيادة مبيعات الأدوية في أكبر 60 سوقا حول العالم بـ4.6 في المائة ليصل إجمالي المبيعات هذا العام إلى 1.5 تريليون دولار، بزيادة 300 مليار دولار عن العام الماضي، وبنحو 1.8 تريليون دولار 2026".
والعوائد والأرباح الضخمة للصناعة لا تنفي وجود مجموعة أخرى من التحديات الأخلاقية والمالية التي تواجهها، فهناك حاجة إلى تبني الأدوية المطبوعة ثلاثية الأبعاد، والعلاج الموجه بالذكاء الاصطناعي، والاستفادة من الثورة الرقمية، وكل هذا يتطلب تعزيز الكود الأخلاقي لدى شركات صناعة الدواء وضخ مزيد من الاستثمارات، ولا شك أن مناخ الثقة السائد حاليا بين قادة صناعة الأدوية على المستوى العالمي، وإدراكهم أن جائحة كورونا مثلت منعطفا تاريخيا للصناعة سيستمر لأعوام مقبلة، جعلهم أكثر شجاعة إن أمكن القول في اتخاذ قراراتهم الاستثمارية.
بدوره، أوضح لـ"الاقتصادية" جيمس أرجون محلل الأدوية في شركة شيري البريطانية للدواء، أن "التكلفة الاستثمارية في صناعة الدواء والعوائد الضخمة والأرباح الهائلة ستؤدي إلى مزيد من التركز الصناعي سواء على مستوى الشركات أو الجغرافيا، لكن الاتجاه الجديد الذي يتوقع أن تشهده الصناعة اقتصاديا يتمثل في صعود نجم الشركات متوسطة الحجم، فعادة ما تقوم شركات الأدوية الكبيرة في معظم الصفقات من حيث الحجم، وقام صانعو الأدوية الكبار في معظم الصفقات في الأعوام العشرة الماضية، ومن 2016 إلى 2020 أي خلال خمسة أعوام أبرمت شركات الدواء الكبيرة 178 صفقة استحواذ قيمتها أكثر من 452.3 مليار دولار، بينما قامت جميع الشركات متوسطة الحجم بـ155 صفقة قيمتها جميعا 55.8 مليار دولار".
واستدرك أرجون قائلا "المشهد تغير العام الماضي، حيث تراجعت شركات الأدوية ذات رؤوس الأموال الضخمة عن عمليات الاستحواذ، لأنها كانت تسدد ديون الفترات السابقة للانتعاش المالي الذي حققته نتيجة وباء كورونا، لكن شركات الأدوية المتوسطة التي كانت تاريخيا أهدافا للشركات الكبيرة، هي من قام بمعظم عمليات الاستحواذ التي تغذيها مصادر رأس المال الجديدة، والحاجة إلى إيجاد نمو على المدى الطويل".
وأضاف "عمليات الاستحواذ ستتواصل وستزداد شراسة في الفترة المقبلة، وسيترافق ذلك مع بزوغ نجم شركات الأدوية في الاقتصادات الناشئة، وذلك نتيجة الوعي المتزايد لدى تلك الدول بأهمية التمتع بدرجة جيدة من الاستقلالية الدوائية، خاصة بعض وباء كورونا والجدل العالمي الذي أثير بشأن اللقاحات".
وفي الواقع، فإنه منذ أعوام عدة وجدت شركات الأدوية متعددة الجنسيات التي تسعى إلى تحقيق النمو، ملاذا مربحا في الأسواق الناشئة، فنموها الاقتصادي السريع أدى إلى التوسع في تغطية الرعاية الصحية، وظهور مجموعة جديدة من المستهلكين القادرين على تحمل نفقات الأدوية، إلا أن بعض الأسواق الصاعدة عانت فترات ركود اقتصادي ومعدلات نمو أقل من المتوقع نتيجة انخفاض أسعار السلع الأساسية، وقد فتح هذا الوضع الطريق أمام الشركات المحلية المنافسة التي ربما لا تقدم الدواء بذات الكفاءة والفاعلية مقارنة بالشركات الدولية، لكنها تقدمه بأسعار في متناول قطاع عريض من السكان من تعزيز مكانتها في الأسواق الوطنية.
مع هذا تعتقد الدكتورة لورين باترسن أستاذة علم الأدوية في كلية الصيدلة في جامعة لندن، أن الأسواق الناشئة من الممكن أن تشهد مضاعفة إيرادات مبيعات الأدوية فيها، وأنه خلال الأعوام العشرة المقبلة ستكون الأسواق الناشئة ضمن أفضل 20 سوقا لمبيعات الأدوية، ومن ثم فإن هناك فرصة جذابة للشركات الدولية للاستثمار في هذه السوق.
وقالت لـ"الاقتصادية" إنه "إذا أرادت الشركات الدولية أن يكون لها موطئ قدم حقيقي في تلك الأسواق، فعليها تطوير استراتيجية طويلة الأجل، ومواصلة الاستثمار، واتخاذ المخاطر المحسوبة".
وأضافت أن "العمل في الأسواق الناشئة يتطلب من الشركات متعددة الجنسيات تكوين شراكات مع الشركات الوطنية لجذب إيرادات إضافية، ويمكنها الاستفادة من الإثراء المتبادل للأفكار، مع الأخذ في الحسبان ضرورة رسم خرائط دقيقة للمنتجات الأكثر طلبا في الأسواق الصاعدة، ومعالجة الحاجات غير الملباة في تلك الأسواق، فبدون فهم حقيقي لاحتياجات السوق المحلية عبر بناء علاقات محلية قوية مع المؤسسات الوطنية سيكون من الصعب على شركات الدواء متعددة الجنسيات منافسة نظيراتها المحلية نتيجة فروقات الأسعار".