Author

مشهد اللغة العربية في يومها العالمي

|

الـ 18 من كانون الأول (ديسمبر) هو اليوم العالمي للغة العربية. إنها لغتنا الجميلة التي حملت إيقاعات الشعر وأعطته نغمات إنسانية سنين طويلة ممتدة عبر الأجيال. إنها لغتنا الواثقة التي أثرت كتابها بالمفردات والمعاني ومنحتهم القدرة على التعبير الدقيق في شتى المجالات المعرفية. ثم هي قبل كل ذلك وبعد لغتنا المتميزة التي أكرمها الله تعالى بالقرآن الكريم. هذه اللغة هي اللغة الأم الخامسة عالميا من حيث عدد من يتحدثون بها بعد الإنجليزية والصينية والفرنسية والإسبانية، وهي أيضا بين اللغات الرسمية الست المستخدمة في الأمم المتحدة، وهي الإنجليزية والصينية والفرنسية والإسبانية والروسية والعربية.
يوم اللغة العربية هو يوم للتفكير في قيمة هذه اللغة، ليس في تحديد هذه القيمة، فهي كبيرة وعزيزة، بل في إدراك أهمية هذه القيمة، والسعي إلى تفعيلها، وحسن الاستفادة من معطياتها، والتخطيط لما نرجوه في المستقبل من تطلعات بشأنها، خصوصا مع ما يشهده العالم من تقدم في الوسائل المعلوماتية، وتطبيقاتها المختلفة، وانتشارها عبر العالم السيبراني. وسنطرح في هذا المقال في إطار مشهد اللغة العربية في الوقت الحاضر، ظاهرتين سلبيتين حول اللغة العربية يطلب التنبه إليهما، في مقابل ظاهرتين إيجابيتين يطلب تفعيل الاهتمام بهما وتعزيز دورهما في المستقبل. ويركز المقال من خلال ذلك على آفاق المستقبل بشأن تفاعل اللغة العربية مع تطبيقات الوسائل المعلوماتية المتجددة في العالم السيبراني، خصوصا تلك المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
الظاهرة السلبية الأولى تجاه اللغة العربية التي نود طرحها، هي توجه بعض المدارس في تقديم التعليم العام لأبناء اللغة العربية بغير لغتهم الأم، وغالبا باللغة الإنجليزية. ولا شك هنا في حقيقة أن اللغة الإنجليزية هي اللغة الوسيطة للتواصل حول العالم، وتعلمها بات ضروريا في هذا العصر، من أجل تعزيز هذا التواصل من جهة، والاستفادة من المحتوى المعرفي لهذه اللغة في العالم السيبراني، بل في الكتب والمجلات الورقية أيضا من جهة ثانية. لكن هناك حقيقة أخرى أيضا، أبرزتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونيسكو.
تقول هذه الحقيقة: إن التعليم باللغة الأم يقود إلى فهم أفضل وأعمق للمحتوى المعرفي المطروح. وتضيف "اليونيسكو" في هذا المجال حقيقة أخرى تبين أن التعليم بغير اللغة الأم يؤذي التعدد الثقافي العالمي الذي يشكل ثروة معرفية مشتركة للعالم بأسره، يجب حفظها وحمايتها من الضعف، وربما الاندثار.
ونظرا لأهمية فكرة اللغة الأم على مستوى العالم، هناك يوم عالمي للغة الأم، يهتم بلغات العالم المختلفة، موعده هو الـ 21 من شباط (فبراير) من كل عام. ولا يتناقض التعليم باللغة الأم بالطبع مع الحاجة إلى تعلم اللغة الإنجليزية والاستفادة من ذلك، فالاهتمام بالاثنين معا ضرورة من ضرورات هذا العصر الذي نعيشه.
ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن هناك وعودا مهمة للمستقبل يطلقها الذكاء الاصطناعي، وتتضمن هذه الوعود توفير ترجمة آنية ومباشرة بين اللغات بكفاءة عالية، ليس فقط في إطار تلقي النصوص بلغة معطاة، وترجمتها وطباعتها باللغة المطلوبة، بل في إطار تلقيها بالصوت بلغة معطاة، وإصدارها بالصوت بلغة مستهدفة. وسيؤدي ذلك إلى إعفاء معظم الناس من تعلم اللغات الأجنبية، والاهتمام أكثر بلغتهم الأم. فهم يستطيعون مخاطبة أيا من كان بلغتهم الأم، وهم يتلقون الخطاب من الآخرين بلغتهم الأم أيضا، والذكاء الاصطناعي في الوسط بين الطرفين يمكن حدوث ذلك.
وننتقل إلى الظاهرة السلبية الثانية وهي ظاهرة ضعف اللغة العربية بين كثير من أبنائها من خريجي التعليم العام، بما في ذلك بعض أولئك الذين أتموا بعد ذلك دراستهم الجامعية والعليا في مختلف التخصصات. ودليل ذلك، ما نجده في عديد من الأقوال مكتوبة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يلاحظ فيها ضعف قواعد اللغة، وصياغة الجمل، حتى ضعف كتابة تهجئة الكلمات، وإحلال حروف تحمل بعض التشابه، مكان أخرى في بعض الأحيان، بسبب عدم التمييز الكافي فيما بينها. وهناك من يشكو أيضا من ضعف في اللغة في صياغة الخطابات بين المؤسسات العامة والخاصة المختلفة.
وتقول الخلاصة، التي يمكن التوصل إليها، بناء على ما تقدم، بوجود حاجة إلى مراجعة تعليم اللغة العربية والبحث عن عوامل الضعف فيها، والبحث عن الأساليب اللازمة لتقويمها، أو ربما تشجيع، بل دعم، وجود دروس جذابة في اللغة العربية على الإنترنت، على غرار أكاديمية خان Khan التي حصلت على تشجيع ودعم بيل جيتس Bill Gates مؤسس "مايكروسوفت" Microsoft.
ونأتي إلى الظاهرتين الإيجابيتين في مشهد اللغة العربية في الوقت الحاضر. تتمثل الظاهرة الإيجابية الأولى في القنوات الفضائية العربية، الرسمية منها والأهلية التي تتبنى في برامجها وأخبارها لغة عربية فصيحة وبسيطة، يتحدث بها مذيعون ومذيعات من أقطار عربية مختلفة، بلهجات تكاد تكون مخفية في إطار النطق السليم للكلمات العربية. والغاية من ذلك هي التواصل مع كل من يفهم العربية ويتحدث بها، أينما كان، وبصرف النظر عن مستوى التعليم الذي وصل إليه.
ونأتي إلى الظاهرة الإيجابية الثانية، حيث تتمثل في تشجيع الترجمة إلى العربية، التي تنقل معارف جديدة إلى العربية. فهناك جوائز مهمة في الترجمة ترعاها مختلف الدول العربية. والأمل هو التوسع في هذه الجوائز لتستوعب التأليف أيضا، لأنه الأقل حظا في هذه الجوائز، رغم الخبرات العربية المتميزة في المجالات المختلفة. ويضاف إلى ذلك اعتماد النشر ليس ورقيا فقط، ولا نصوصا إلكترونية فقط، بل اعتماده صوتيا، وربما عبر وسائط المعلومات واسعة النطاق التي تشمل النشر نصوصا وصوتا وصورة.
لا شك أن مشهد لغتنا الجميلة هو مشهد واسع النطاق، في إيجابياته، وسلبياته. وإذا كنا، في هذا المقال قد قدمنا جزءا بسيطا ومحدودا من هذا المشهد، فإن هناك أجزاء باقية تستحق إسهامات أخرى كثيرة. والمهم هنا هو السعي إلى تعزيز إيجابيات المشهد والعمل على الحد من سلبياته.

إنشرها