Author

الرأسمالية واستنزاف المصادر الطبيعية والاقتصادية

|
أستاذ جامعي ـ السويد

لا غرو أن الرأسمالية كفكر وممارسة هي الطاغية حاليا في العالم. حتى الصين التي تقودها حكومة ومؤسسة تدين للماركسية والماوية منهجا، تتبع الرأسمالية في التحكم وإدارة الاقتصاد والمال والتجارة. فإن كانت الرأسمالية تقود أروقة الاقتصاد والمال والصناعة والتجارة في العالم، كيف لنا تفسير السلبيات والأزمات التي تعصف بالمجتمعات البشرية اليوم؟ لو وددت وضع قائمة بالسلبيات والأزمات التي تفرزها الرأسمالية، ربما لن تسع المساحة المخصصة لهذا المقال، وقد نحتاج إلى صفحات أخرى.
وكلما استغرقني التفكير في هذه السلبيات حاولت جهدي وضعها ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي لمعرفة أسبابها ومسبباتها. وهذا الجهد يحتاج إلى قراءة معمقة، لكن الأمر الذي هالني أن من النادر إلقاء اللوم على الرأسمالية حتى إن كانت الأزمات والسلبيات نتيجة ومحصلة مباشرة لها.
لنأخذ مثالين لا أظن هناك من لم يقرأ أو يسمع عنهما وربما لم يتأثر بهما بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
الأول: يخص التكالب على المصادر الطبيعية، والثاني: يركز على إخفاء الثروة هربا من الضريبة. ويظهر لنا التاريخ الحديث أن استغلال البشر والمصادر الطبيعية وتكديس الثروة ومن ثم العمل على خزنها في أمكان سرية خارج الفضاء الرسمي الشفاف من الأمور التي كانت ولا تزال ترافق الرأسمالية والنظم التي تستند إليها منهجا. لكن عندما نقرأ عن السلبيات والمآسي التي تفرزها مثل هذه الإجراءات غير السليمة، قلما نلحظ تحليلا منصفا عن لماذا وكيف وقعت، ولهذا من النادر أن يتم جلب الذين يقفون وراءها إلى العدالة.
قد ينظر إليها على أنها سلبيات، بيد أنها تقع لدى القائمين بها ضمن "الأضرار التبعية أو الجانبية" لمهمة "سامية". والضرر الجانبي لديهم مشروع ومقبول لأنه، حسب رأيهم، علينا تقييمه والنظر إليه ضمن إطاره التاريخي وزمكانيته. ولهذا قلما نلحظ إلقاء اللوم المباشر أو حتى غير المباشر على النظام الرأسمالي والسياسات والإجراءات والممارسات التي ترافقه. وهذه السردية لا تخص أحداثا ووقائع رافقت الاستعمار الحديث مثل تجارة العبيد والفصل العنصري والاضطهاد الفظيع للسكان المحليين الذي وصل في أحيان كثيرة حد الإبادة الجماعية.
السردية ذاتها ترافق إفرازات النظم الرأسمالية حاليا التي من غير الممكن استيعابها وهضمها خارج أطرها التاريخية، خصوصا انطلاقا من وجهات النظر لدى الضحايا من الناس الذين يعانون هكذا ممارسات.
ورغم الهزات العنيفة التي تتعرض لها الرأسمالية مثل الأزمات المالية الشديدة التي تكاد أحيانا تطيح بالأسس التي يقوم عليها نظامها المالي - ربما آخر معاقلها المنيعة - لم تكلف النظم المبنية على تراكم الثروة وسعها لتصحيح المسيرة التاريخية لمنع تكرار السلبيات. ولهذا بين الفينة والأخرى يقف العالم مصدوما ومشدوها أمام هول المعلومات التي يفصح عنها الصحافيون الاستقصائيون حول خفايا وخبايا الرأسمالية.
اضطهاد الأقليات والسكان المحليين مخفي عن المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني، إلا أننا نراه شاخصا أمامنا من خلال ما قد يلقيه باحث أو صحافي جريء من ضوء على مظاهر كانت غائبة أو جرى تغييبها. وتراكم الثروة وحصرها في متناول عدد محدد جدا من الناس تراه الرأسمالية أمرا محبذا لا بل ركنا من أركان الاقتصاد الرأسمالي الأساسية، إلا أننا نصبح أمام صدمة تؤرقنا لفترة طويلة بعد رفع النقاب عن وثائق حول ما يفعله الأغنياء بفلوسهم والطريقة التي كدسوها وخزنوها. ونشرع في ضرب الأخماس بالأسداس متسائلين ومستفسرين بعد كل كشف للوثائق والملفات السرية عن جزر قصية، سرية ومخفية، لها سلطات قضائية ملغزة وغامضة تسمح للأغنياء الذين مكنتهم الرأسمالية من تكديس ثروات طائلة، بتهريب أموالهم إليها.
إخفاء الثروة عن الأعين هربا من الضريبة أو الاستثمار المشروع انتهاك صارخ للقانون في الدول الرأسمالية القوية التي يصل مدى سلطتها أبعد بكثير عن تخومها الجغرافية. ونبقى في حيرة من أمرنا مثيرين أسئلة يبدو أن لا جواب لها: كيف يحدث هذا؟ وكيف تسمح الدول الرأسمالية بهذا؟ كيف ومن أوصلنا إلى نظام مالي يسمح لثروات طائلة بأن تحول إلى ما صرنا نطلق عليه مصطلح "ملاذات ضريبية"؟ وما يزيد الطين بلة عندما نقرأ أو نسمع السياسيين في الدول الرأسمالية وهم يدينون ما يطلقون عليه بالوجه غير المقبول للرأسمالية. هذا ليس وجها غير مقبول للرأسمالية، بل الرأسمالية ذاتها وجوهرها الذي يلد سلبيات ومآسي مثل هذه.
هل نسينا أن الاستعمار الحديث والاستغلال الاقتصادي والاستثماري والاجتماعي بدأ أول ما بدأ في الجزر القصية هذه التي يتخذها الرأسمالييون حاليا ملاذا ضريبيا، أي: وسيلة تهريب الأموال بطريقة رأسمالية "مشروعة"؟

إنشرها