Author

الشركات ومؤشرات العسر المالي

|

قضايا الإفلاس والإعسار من القضايا الاقتصادية التي يتم إقرارها بتنظيمات قد تختلف من دولة إلى أخرى، حيث إنها من أدوات النظام الاقتصادي لإصلاح ذاته وتعديل حالات السوق وهياكلها. وهذه الآلية تصب في مصلحة الأسواق عموما وتوفر حماية للكيانات المختلفة وثقة بأدوات الدين، لكن الإفلاس بذاته يتطلب تنظيما صارما لأن الأشكال القانونية للشركات تجعل الأصول الثابتة في أوقات كثيرة هي الضمان الوحيد للمقرضين، وعندما تصبح هذه الأصول مهددة فمن حق المقرضين طلب إجراءات تنظيمية معينة لحسن استخدام هذه الأصول أو البدء في تصفيتها وبيعها لاسترداد حقوقهم.
وهنا يطرح السؤال الأهم وهو: متى يشعر المقرضون بالتهديد؟ ومتى يحق لهم تنفيذ ذلك محاسبيا؟
إن مؤشرات العسر المالي تعد أهم المعلومات التي يتابعها المقرضون، وتتابعها قبلهم مؤسسات التصنيف الائتماني، لعل أهم هذه المؤشرات المالية مؤشرات السيولة التي تقيس قدرة الشركة على توفير النقد الفوري لتغطية الالتزامات ومتطلبات رأس المال العامل، وتعد نسبة التداول أهم مؤشرات السيولة وتقيس عدد مرات تغطية الأصول المتداولة للالتزامات قصيرة الأجل، ذلك أن فشل الأصول المتداولة التي تشمل النقد وما في حكمه والمخزون في إنتاج النقد وتغطية الالتزامات والأقساط العاجلة، يعني ضمنيا أن الشركة ستضطر إلى بيع أصولها الثابتة أو تسييل الاستثمارات الاستراتيجية وهي الضمان الأساسي للمقرضين، فعند حدوث مثل هذا التهديد فإن المقرضين بناء على النظام يحق لهم طلب فتح إجراءات التنظيم المالي للشركة وتعد مرحلة مبكرة من مراحل تصفية الشركة، فالنظام قد وضع مراحل لمعالجة هذه المشكلة من خلال تنظيم إجراءات الإفلاس إلى التسوية الوقائية ثم إعادة التنظيم المالي وأخيرا التصفية.
إن التسوية الوقائية تمكن المدين نفسه من التقدم إلى المحكمة إذا كان يعاني اضطرابات مالية يخشى معها تعثره، أو إذا كان متعثرا فعليا أو مفلسا، والهدف من ذلك تمكين المدين الذي يعاني اضطراب أوضاعه المالية من الاستفادة من إجراءات الإفلاس، لتنظيم أوضاعه المالية ومعاودة نشاطه والإسهام في دعم الاقتصاد وتنميته وفي الوقت نفسه مراعاة حقوق الدائنين على نحو عادل وضمان المعاملة العادلة لهم.
وتمكن الأنظمة المختلفة بما فيها النظامان الإنجليزي والأمريكي المدين الراغب في تفادي إشهار إفلاسه من تسوية واقية من الإفلاس وتتضمن الصلح الودي مع الدائنين، لكن المشكلة في هذه التسويات الودية أنها تفقد الثقة ما لم تكن تحت إشراف القضاء، وقد يطلق على مثل هذه التسوية بحسب النظام الذي أصدرها "التسوية الواقية من الإفلاس"، وقد تسمى التسوية الإرادية أي: بإرادة المدين، كما هو منصوص عليه في النظام الإنجليزي، ورغم أن التسوية الواقية من الإفلاس والتسوية الإرادية لا يلزم لإتمامهما موافقة جميع الدائنين، بل تنعقد بموافقة أغلبهم إلا أن التسوية الواقية من الإفلاس تقع في حق الشركات والتجار فقط بينما الإرادية يمكن لغير التاجر الاستفادة منها كما في النظام الإنجليزي.
في السعودية صدر نظام الإفلاس بتاريخ 28/5/1439هـ في 17 فصلا و231 مادة، كما صدرت لائحته التنفيذية في العام نفسه، بقرار من مجلس الوزراء وهذا الحجم الكبير للنظام دليل على تأثيره الواسع والاعتبارات الاقتصادية والمالية والقانونية التي أخذ بها صانع القرار عند إصداره هذا النظام.
وفي الولايات المتحدة يعمل قانون الإفلاس على المبادئ الأساسية نفسها من حماية الكيان من طلبات المقرضين حيث يمكن للكيان طلب التسوية الوقائية باستخدام الفصل الـ11، حيث يمكنه الحصول على دعم من المحكمة يجعله مسيطرا على العمليات التجارية وفقا لخطة معتمدة من المحكمة يتم من خلالها السداد للدائنين في عملية تسمى إعادة جدولة الديون. وفي الصين توجد أيضا حالات إعادة التنظيم من أجل الفوز ببعض الوقت الذي يمكن المدين من تنظيم أموره المالية بشروط قاسية نوعا ما تخضع الكيان أو الشخص لفترة التفتيش وهي ثلاثة أعوام يقدم فيها جميع المعلومات عن دخله الشخصي وحالة الملكية والنفقات شهريا.
وفي المملكة المتحدة أيضا صدر قانون الإعسار في 1986 وقد تتبع المنهجية الأمريكية في منح الكيانات فرصة لإعادة تنظيمها المالي وجدولة ديونها لكن وفقا لشروط قاسية قد تتضمن في بعض الحالات تعيين مديرين مستقلين لضمان حسن إدارة الكيان وأصوله، ومع ذلك فإن عددا قليلا من الشركات والكيانات يستطيع إنقاذ نفسه فعليا، فبحسب بيانات مكتب العمل في الولايات المتحدة، هناك نحو 20 في المائة من جميع الأعمال التجارية تنهار خلال العامين الأولين من إنشائها، ونحو 45 في المائة من هذه الشركات تنهار خلال الأعوام الخمسة الأولى، وتصل النسبة إلى 65 في المائة من الشركات تنهار أو تفلس في غضون عشرة أعوام منذ تأسيسها.
ومن الواضح أن هذه الأنظمة والأفكار الاقتصادية قد وضعت في وقت طبيعي، حيث إن إطلاق عمل آليات الإفلاس يعد ضمانا للجميع ولحركة الأموال وللثقة بالاقتصاد، لكن لم توضع مثل هذه الأنظمة لأوضاع اقتصادية غير طبيعية مثلما حدث لشركة باسيفيك للكهرباء والغاز الأمريكية، حيث تعرضت لخطر الإفلاس مرتين لأزمات الجفاف واستنزاف النقدية لدى الشركة بتكاليف راوحت بين 40 و45 مليار دولار، وفي المرة الثانية نتيجة عطل كهربائي لحرائق الغابات في كاليفورنيا ما تسبب في مصروفات والتزامات تنوعت ما بين مليار دولار للحكومة و11 مليار دولار لصناديق التأمين والتحوط، ومبلغ 8.4 مليار دولار لأضرار الحرائق التي دمرت 500 منزل، في حين طالب ضحايا الحرائق بتعويضات بلغت 54 مليار دولار، فترك هذه الشركات المهمة لضغوط الدائنين خطر يؤثر في الاقتصاد، بينما يدرك الجميع أن الأزمات غير المعتادة هي التي تتسبب في ذلك ما يهدد الأمن الاقتصادي عموما، ولذلك فإن حماية هذه الشركات من عمل آلة الإفلاس تصبح ضرورة ملحة، واليوم في مثل الأزمة التي شكلها انتشار فيروس كورونا، أكدت دراسة منشورة على موقع البنك الدولي أن تدابير الإغلاق والتباعد الاجتماعي لاحتواء تفشي الجائحة أدت إلى تعطل أنشطة مؤسسات الأعمال التي كانت تتمتع بأسس متينة لولا تلك الأزمة، كما أثرت في قدرتها على سداد التزاماتها للدائنين، وأوردت "الاقتصادية" أمثلة لتأثير أزمة كورونا في شركات كانت تعمل بكفاءة عالية مثل شركة هيرتز لتأجير السيارات، حيث انخفضت إيراداتها بسبب التباعد الاجتماعي من نحو عشرة مليارات دولار في 2019، إلى نحو خمسة مليارات دولار في 2020، كذلك شركة لاتام للخطوط الجوية. وإذا كانت الحكومات قد بذلت جهدا واضحا في دعم المؤسسات والشركات خلال الأزمة فإن دراسة البنك الدولي تطالب أيضا بمراجعة وتعديل أطر الإفلاس بما يعكس ظروف الأزمة، وهذا يعني ضمنيا تعطيل عمل آلة الإفلاس وتعديل سرعاتها، وهذا صحيح نوعا ما ويجد ما يبرره في الواقع.
إن تصفية الشركات والكيانات خاصة المتوسطة منها بسبب تعنت المقرضين، تؤدي إلى فقدان الوظائف وعدم قدرة الدائنين على استرداد أقل من 30 في المائة من الديون في المتوسط، كما تؤكد الدراسة، إضافة إلى زيادة رفع طلبات التسوية كما يحدث عادة في الأزمات المالية، تدهور جودة الأصول التي تحتفظ بها المؤسسات ما يفاقم الأزمة بزيادة نسب القروض المتعثرة، وضعف التصنيفات الائتمانية، لذلك يتم إبطاء لجوء الشركات إلى إجراءات التسوية وزيادة الحواجز أمام الدائنين لطلب البدء في إجراءات التنظيم المالي، وهذا ما فعلته كل من إسبانيا وسنغافورة وروسيا، حيث علقت قدرة أعضاء مجالس الإدارات على التقدم بطلبات إشهار الإفلاس، وهناك مطالبات بأن يتولى مجلس الإدارة مسؤولية ضمان مصلحة الدائنين في استخدام الأموال.

إنشرها