Author

تنافس النبوغ والتنمية في دليل عالمي

|

إذا جاز لنا أن نعرف الموهبة Giftedness، فلعلنا نقول: إنها تميز يحمل قيمة، يمنحه الله تعالى للإنسان، ويجعله قادرا على التفوق فيه على الآخرين. وقد تبقى هذه الموهبة كامنة، ما لم يتم اكتشافها ورعايتها، وهي متنوعة في طبيعتها، وتختلف بين شخص وآخر. وقد ترتبط بمعرفة نظرية؛ كالرياضيات، أو تتعلق بمهارة عملية؛ كالفنون التشكيلية، أو ربما بخصائص الطبيعة الإنسانية؛ كالشخصية القيادية، أو حتى بالقدرة الحركية؛ كالتفوق الرياضي، أو غير ذلك من إمكانات وصفات تميز. وتحتاج الموهبة إلى رعاية تسعى إلى تنميتها وتمكينها، كي تصبح قادرة على العطاء، وإبراز ما تتمتع به من قيمة. في هذا الإطار، يبرز أمامنا تعبير آخر هو النبوغ Talent، وهو ما تصل إليه الموهبة عندما تحظى بالرعاية والتنمية اللازمتين، لتنطلق إلى العطاء والإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها.
ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن الموهبة ليست الطريق الوحيد إلى النبوغ، بل إن هذا النبوغ ربما يأتي عبر الخبرة الطويلة من العمل في الموضوع المطروح، خصوصا عندما يقترن اكتساب الخبرة بالحماس والشغف، والتعمق في التفاصيل. ولا شك أن اجتماع مثل هذه الخصائص مع وجود الموهبة في الشخص المعني، يمكن أن يقود ليس إلى النبوغ فقط؛ بل إلى التميز فيه أيضا.
أمام أهمية النبوغ وأثره في التنمية، رأت ثلاث مؤسسات عالمية مرموقة أن هناك حاجة إلى وضع دليل عالمي يهتم بتقييم حالة النبوغ في دول العالم المختلفة في إطار التنمية، والقدرة على التميز والمنافسة في العطاء الذي تقدمه. والغاية من ذلك هي تمكين هذه الدول من التعرف على حالها في هذا المجال، مقارنة بحال الدول الأخرى، وتوجهها بالتالي نحو التطوير والارتقاء نحو مكانة أفضل. وأصدرت هذه المؤسسات دليلا أسمته الدليل العالمي لتنافسية النبوغ GTCI. وشملت هذه المؤسسات الثلاث: مؤسسة أكاديمية في مجال إدارة الأعمال، هي إنسياد INSEAD، وأخرى تعمل في مجال الثروة البشرية هي أديكو ADECCO، وثالثة هي أشهر شركات الإنترنت والخدمات الإلكترونية هي جوجل GOOGLE.
ينظر الدليل إلى تنافسية النبوغ عبر ستة محاور رئيسة، هي: بيئة التمكين Enable، والبيئة الجاذبة Attract، ثم مسألة النمو Growth، ومسألة المحافظة Retain على أرصدة الحياة، إضافة أيضا إلى المهارات الفنية Vocational and Technical Skills، والمهارات المعرفية العالمية Global Knowledge Skills. وسنقدم فيما يلي تعريفا عاما بكل من هذه المحاور.
إذا بدأنا بمحور بيئة التمكين، نجد أن المقصود بهذه البيئة هو تمكين بروز النبوغ، ولهذه البيئة ثلاثة أبعاد رئيسة. يهتم أول هذه الأبعاد بالبيئة التنظيمية للدولة المعنية، بما في ذلك فاعلية الخدمات الحكومية، والمرجعية القانونية، ونزاهة العمل، وغير ذلك. أما البعد الثاني فيركز على بيئة السوق، بمعنى سهولة تأسيس الأعمال وتنفيذها، والاهتمام ببنية تقنيات المعلومات، والإنفاق على البحث والتطوير، وما إلى ذلك. ويهتم البعد الثالث ببيئة تنفيذ الأعمال وشؤون العمالة. ونأتي بعد محور بيئة التمكين إلى محور البيئة الجاذبة، حيث المقصود هنا هو الانفتاح على الناس من أجل تحفيز إمكاناتهم وتشجيعها على النمو والعطاء. ولهذه البيئة بعدان رئيسان، يهتم أولهما بالانفتاح الداخلي ويتضمن الاستيعاب الاجتماعي والمهني للجميع، ويركز الثاني على الانفتاح الخارجي، بما يشمل جذب الاستثمارات والأعمال، وجذب الأفراد المتميزين، وكسب عقولهم وإمكاناتهم، والاستفادة منها.
ونصل إلى محور النمو الذي يشمل ثلاثة أبعاد رئيسة. يرتبط البعد الأول منها بالتعليم النظامي بجانبيه الكمي من حيث العدد، والنوعي من حيث الجودة. ويهتم البعد الثاني بقضايا التعلم مدى الحياة. ثم يركز البعد الثالث على فسح المجال أمام تمكين فرص النمو، بما يشمل تفعيل التعاون داخل المؤسسات، وفيما بينها أيضا. ويأتي بعد ذلك محور المحافظة على أرصدة الحياة، حيث يتضمن بعدين رئيسين. أولهما بعد الاستدامة الذي يهتم بمسألة المحافظة على العقول. أما البعد الثاني، فيركز على أسلوب الحياة الذي يجب أن يتضمن الاهتمام بالحفاظ على البيئة، والصحة، والأمان.
ويبرز هنا محور المهارات الفنية الذي يشمل بعدين رئيسين: بعدا يهتم بمهارات المستوى المتوسط، أي مستوى التعليم الثانوي، ومستوى المساعدين الفنيين، ثم بعدا يركز على قابلية أصحاب مثل هذه المهارات للتوظيف، والحاجة إلى توافق نظام التعليم مع المتطلبات الاقتصادية. ونصل أخيرا، في إطار الدليل المطروح، إلى محور المهارات المعرفية، وله بعدان أيضا. يهتم أولهما بالمهارات الموجودة على مستوى التعليم الجامعي، ويركز الآخر على أثر النبوغ، ويشمل ذلك مخرجات الابتكار، ومعطيات النشر العلمي، وصادرات القيمة المرتفعة، وغير ذلك.
يبلغ مجمل عدد مؤشرات الدليل، الموزعة على محاوره 70 مؤشرا. وتنقسم هذه المؤشرات، من حيث تكوينها، إلى ثلاثة أقسام: هناك مؤشرات كمية Quantitative؛ كأعداد الطلاب، يبلغ عددها 27 مؤشرا، وهناك مؤشرات نوعية Qualitative؛ كجودة التعليم، يبلغ عددها 29 مؤشرا، ثم هناك مؤشرات مركبة Composite؛ كسهولة إقامة الأعمال، يبلغ عددها 14 مؤشرا. وجرى اختيار مؤشرات الدليل من 25 مصدرا، بينها منظمات تابعة للأمم المتحدة؛ كالبنك الدولي World-Bank، واليونيسكو UNESCO، ومنظمة العمل الدولية ILO، ثم بينها مؤسسات دولية مستقلة مثل المنتدى الاقتصادي الدولي WEF، وبينها أيضا مؤسسات مختلفة أخرى.
يعطي الدليل العالمي لتنافسية النبوغ نظرة واسعة النطاق إلى ما يرتبط بتمكين الموهبة والنبوغ وتأمين البيئة المناسبة من جهة، وإلى ما يتعلق بتفعيل الاستفادة من ذلك والإسهام في التنمية المستدامة من جهة ثانية. ورغم هذه النظرة الواسعة، الناتجة عن اجتهادات عدد من الخبراء، إلا أننا لا يمكن أن نصفها بأنها شاملة، لأن قضايا تميز الإنسان وتفوقه وارتباطها بالتنمية والتقدم تشمل كل نواحي الحياة دون استثناء. وليست اجتهادات هذا الدليل وحيدة في العالم، فهناك، على سبيل المثال، اجتهادات دليل الابتكار العالمي GII التي كانت موضوع مقالات سابقة. ولا شك أن الاطلاع على الاجتهادات العالمية المختلفة أمر مهم في مسيرة التنمية التي تشهدها المملكة.

إنشرها