Author

إمدادات مرتبكة وفاتورة تتضخم

|

يواجه العالم اليوم ارتفاعا مستمرا في أسعار الشحن وأصبح هذا الوضع قضية جاثمة يعانيها معظم اقتصادات العالم ـ خاصة بعد التداعيات التي خلفتها جائحة كورونا.
أسعار الاستيراد العالمية بحسب تقرير لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" قد ترتفع 11 في المائة وأسعار المواد الاستهلاكية 1.5 في المائة بين الفترة الحالية و2023، وعلى كل حال فإن الجميع يشعر بذلك الآن، لكن من اللافت للانتباه أن هذا الصعود غير المسبوق لأسعار الشحن يأتي بعد أعوام من التراجع التاريخي في أجور الشحن عندما تراجعت عام 2016، 88 في المائة، وذلك لتراجع الطلب وحركة تبادل البضائع والحاويات بين أسواق.
لكن الصورة اليوم تعد مختلفة تماما، والأسعار ترتفع بشكل قياسي، فهل لتلك الحقبة أثر في الوضع الحالي اليوم؟ هذا السؤال مهم جدا، نظرا للتضارب في تحديد الأسباب التي أدت إلى ارتفاع الأسعار بهذا الشكل الحاد خلال فترة من التضخم العالمي المستعر والأسعار ترتفع في كل القطاعات تقريبا، مع بقاء الأسباب الكامنة خلف ارتفاع أسعار الشحن يلفها بعض الغموض.
هناك اضطرابات في سلاسل الإمداد، هذا هو السبب الأكثر ارتباطا بالأسعار، لكن السؤال لماذا ارتبكت سلاسل الإمداد إلى هذا الحد، ومضى وقت كاف لمعالجة الاضطرابات، ومع ذلك لا يوجد في الأفق ما يوحي بأن الإمدادات العالمية ستستقر قريبا، وهذا معناه أيضا أن الأسعار والتضخم لن يستقرا أيضا ما يلقي بظلال من الشك حول قدرة صناع القرار على التمسك بأسعار الفائدة الحالية، وبهذا فإن عدم التأكد سيستمر إلى أجل غير مسمى، والحل يكمن في فهم الأسباب الحقيقية الكامنة خلف اضطراب خطوط الإمداد العالمية.
وعلى الصعيد نفسه، هناك ادعاءات بشأن القدرة الاستيعابية لسفن الحاويات ونقص عدد الحاويات والعمالة والازدحام في الموانئ، لكن هذه نتيجة وليست سببا، ولفهمه فإننا نعود إلى ما ذكرته الأمينة العامة لـ"أونكتاد"، من أن العودة إلى الوضع الطبيعي تستلزم الاستثمار في طرح حلول جديدة بما في ذلك البنية التحتية والتكنولوجيا الخاصة بالشحن والرقمنة وإجراءات تسهيل التجارة. إن هذه العبارات مهمة خاصة أنها تصدر من شخصية مطلعة على الظروف الراهنة، فمن الواضح أن انهيار أسعار الشحن العالمية الذي حدث عام 2016 وما بعده زاده فيروس كورونا عمقا، الذي تسبب في توقف الاستثمارات العالمية في سفن الشحن والحاويات والتكنولوجيا المتقدمة في هذا الشأن، بل توقفت حتى الاستثمارات الكبيرة والتوسعات الحقيقية في الموانئ العالمية، ومع انقطاع الأعمال في زمن الوباء كان يتم تفريغ للمخازن والمستودعات في أنحاء العالم دون القدرة على تجديد المخزون، فلما عادت الأمور إلى طبيعتها كانت الأعداد المتاحة وكذلك عمال الشحن والتفريغ غير كافيين لمواجهة النمو السريع وغير المتوازن في الطلب العالمي، لهذا كانت الاضطرابات واقعا لا مفر منه، لكن هذا أيضا لا يفسر كامل التغير الكبير في الأسعار واستدامتها بهذا الشكل حتى عام 2023 كما هو متوقع في التقرير العالمي.
ومن الواضح أن ظروف القطاع التي مرت عام 2016 كان لها دور في الحالة الراهنة ليست من جانب توقف الاستثمارات فقط بل حتى من جانب هيكلة السوق، كما أشار بذلك البيت الأبيض من أن ثمة حاجة إلى مزيد من العمل لضمان منافسة عادلة في قطاع الشحن العالمي، الذي تهيمن عليه ثلاثة تحالفات نقل في المحيطات، فهناك قناعات متزايدة بأن الأسعار ترتفع أيضا لحالة هيكل السوق وأنها تكون في قبضة نموذج من احتكار القلة، وقال المجلس الاقتصادي القومي للبيت الأبيض في مدونة جديدة إن اللجنة البحرية الاتحادية، وهي وكالة مستقلة، تحقق بالفعل في رسوم الشحن الزائدة عن الحد، لكن عليها بحث استخدام أدوات أخرى، ومنها مواجهة تحالفات النقل إذا تسببت في تكاليف أو تأجيلات غير منطقية، ومن جانب آخر يعمل الكونجرس على سن تشريعات لإعطاء اللجنة مزيدا من الأدوات للإشراف على قطاع الشحن العالمي، ومن ذلك زيادة الشفافية بشأن الرسوم التي تفرضها الناقلات على عملائها. وهذا يعطينا مؤشرا على أن الاضطرابات التي تصيب أي قطاع وانهيار الأسعار ليسا في مصلحة الأسواق العالمية على المدى الطويل.
إن هذه الظروف التي يعانيها القطاع تسهم في استدامة ارتفاع الأسعار، لكن في واقع الحال بشأن عدم عدالة توزيع لقاحات كوفيد - 19، له دور أيضا، كما أن نقص العمالة في الموانئ العالمية وسفن الشحن يعود إلى عدم تلقيهم اللقاحات الكافية التي تتطلبها اشتراطات عديد من الدول في العالم، ما يجعل تنقلهم صعبا للغاية، إذ إن معدل تطعيم البحارة يبلغ نحو 41 في المائة، ما يجعل تلقيحهم أولوية، كما حثت الوكالة التابعة للأمم المتحدة الحكومات والقطاعات ذات الصلة التي توظف أكثر من 1.9 مليون شخص في جميع أنحاء العالم في هذا المجال للعمل معا لإنهاء أزمة الطواقم العالقة وآلاف البحارة الذين تقطعت بهم السبل دون إعادتهم إلى أوطانهم أو استبدالهم.
في النظرية الاقتصادية أن معالجة أي اضطراب في الأسعار تتطلب دراسة أثر تغيير كل عامل من العوامل المؤثرة فيها ولو بوحدة واحدة فقط، وفي قطاع الشحن تتنوع العوامل فبعضها يتعلق بتلقي البحارة اللقاحات وبعضها يتطلب زيادة الاستثمار والبعض له علاقة بحالة هيكل السوق، ولهذا فإن إيجاد حل كامل للاضطراب في الإمدادات لن يكون وشيكا ولن يحدث فجأة بل سيأخذ وقتا، وحتى ذلك الحين فإن الأضرار ستكون كبيرة على المستهلكين وسترتفع الأسعار عليهم بنسب تراوح بين 7.5 و2.2 في المائة.

إنشرها