Author

استغلال أزمة سلاسل التوريد

|
تتضخم الشركات وتنتشر حول العالم وتكون سلاسل إنتاج في بقع جغرافية متعددة وتوزع أنشطتها لتعظيم الأرباح. وتستأثر الشركات الكبرى حول العالم بجزء كبير من تجارة العالم سواء بين أجزائها المتفرقة أو بين بعضها بعضا. تستخدم الشركات شبكات التوريد العالمية لخفض تكاليف الإنتاج، حيث يجمع المنتج أو تنتج مدخلاته عبر العالم للاستفادة من الميزات النسبية للعمالة أو رأس المال أو التقنية أو لتوافرها بشكل أفضل في بلد ما. وتتجزأ مراحل إنتاج السلع والخدمات أحيانا للانسجام مع الأنظمة أو لكسب مزايا تسويقية في بقع جغرافية معينة. وتزداد بموجب انتشار شبكات التوريد درجات المنافسة ما يحفز الإبداع والاختراع.
استفادت الشركات الكبرى وملاكها من توزيع أنشطتها حول العالم وتعاظمت أرباحها. من جهة أخرى، قاد الاعتماد المتزايد على سلاسل التوريد، واستخدام التقنية والبرمجيات في التسويق وإمدادات مدخلات الصناعة، وتوزيع الشركات على النطاق العالمي، إلى خفض أحجام مخزونات المدخلات والمنتجات؛ ما رفع مخاطر المنتجين على سلاسل التوريد وزاد تأثرهم بانقطاعاتها. وتولد عن ترابط حلقات شبكات التوريد انكشاف الصناعات على مخاطر تعطل أي جزء من الحلقات، بحيث تتأثر مراحل التصنيع والتوريد والتوزيع والتسويق التي تقود إلى تأثيرات سلبية على المستهلك والعمالة والنشاط الاقتصادي.
أزمة سلاسل التوريد هي عبارة عن نقص مواد ومكونات معينة مصدرها جهات خارجية أو داخلية متعثرة في إيصالها، وتنتشر حاليا في نواح كثيرة من إنتاج السلع والخدمات. نشبت أزمات سلاسل التوريد مرات متعددة، لكن حجم الأزمة الحالية وامتداداتها التي نتجت عن جائحة كورونا لم يسبق له مثيل في زمن السلم. وأدت هذه الأزمة إلى توقف وتأثر إنتاج كثير من السلع والخدمات؛ ما ولد اختناقات في قطاعات اقتصادية وضغطا على النمو الاقتصادي وخفض معدلاته. وأدى بالتالي إلى عواقب اقتصادية غير محمودة أبرزها خفض مستويات التوظيف ورفع التكاليف؛ ما أبطأ التعافي الاقتصادي وهدد بزيادة معدلات التضخم.
تقود أزمات سلاسل التوريد إلى خفض إنتاج الصناعات المتأثرة ورفع تكاليف مدخلاتها، لكن بمستويات متفاوتة. وتتأثر بزيادة التكاليف الصناعات محدودة الهوامش بدرجة أكبر، كقطاعات النقل ومبيعات التجزئة والبناء والتشييد والسيارات. في المقابل، ستكون الشركات العاملة في القطاعات الأقل استخداما للمدخلات والمواد الخام والأكثر هامشا في الربح والأقل استخداما للعمالة الأوفر حظا في التصدي لأزمة شبكات التوريد، ومن أبرزها شركات التقنية.
أصبحت الصين مركز الصناعة العالمية وتترابط صناعتها بشكل قوي بالقطاعات الصناعية حول العالم. وبدأت الجائحة من الصين وكان أول الإغلاقات فيها، وقاد توقف إنتاج مصانع بعض الشركات العالمية؛ كشركة أبل وإنتل وفورد في الصين وتايوان، إلى تأثر صناعات كثيرة وخفض إنتاج سلع معمرة؛ كالسيارات والجوالات وطيف واسع من الأجهزة الإلكترونية والسلع المعمرة. إضافة إلى اختناقات النقل البحري والبري والموانئ. ورفع توتر العلاقات التجارية الأمريكية الصينية، وأزمة الطاقة العالمية، حدة اختناقات سلاسل التوريد. وفاقم تغير هيكل الطلب المؤقت حدة الأزمة. ويتركز الطلب الكلي حاليا على السلع والمعدات والأجهزة بدرجة أكبر، ويتراجع عن خدمات السفر والسياحة والترفيه.
سرعت الجائحة من التحولات تجاه استخدام التجارة الإلكترونية، التي ولدت مزيدا من الضغوط على قطاعات الإمدادات والتخزين ورفعت الاعتماد عليها، وستجبرها مع مرور الوقت على التأقلم وإجراء تغيرات هيكلية تنسجم مع الواقع الجديد. وبنيت نماذج سلاسل التوريد على أساس افتراضات مثالية لخفض التكاليف للمستوى الأدنى؛ كافتراض وفرة كاملة ومواصلات سلسة وأسعار دنيا التي ثبت على أرض الواقع أنها غير ممكنة، وأنها مستحيلة في وضع الأزمات. عموما، لا بد من إعادة النظر في هذا النموذج، حيث يحتاج العالم إلى مزيد من المرونة في شبكات التوريد كما تحتاج المؤسسات إلى الاعتماد بشكل أكبر على خطط بديلة تخفف من أزمات سلاسل التوريد عند حدوثها.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستحفز أزمة سلاسل التوريد تغيرات الأعمال؟ يعتقد كثيرون أن الأزمة ستمكن الشركات الكبيرة بدرجة أكبر من الاستحواذ على حصص متزايدة من الأسواق لتوافر الإمكانات لديها لاتخاذ إجراءات أقوى وأكبر لمواجهة الأزمة؛ كاستئجار سفن بكاملها أو شرائها أو حتى امتلاك شركات نقل خاصة بها، بينما تجبر الأعمال أو الشركات الصغيرة على دفع تكاليف مرتفعة لمواجهة الأزمة أو الأزمات القادمة. من جهة أخرى، يتخوف البعض من استغلال المتحكمين في الشحن أو إنتاج ومخزونات البضائع المتأثرة بالتربح الفاحش؛ ما يعني زيادات مبالغا فيها بأسعار السلع وأرباحا متعاظمة لملاك المخازن وشركات الشحن وزيادة في خلل الثروة والدخل العالمي.
تحدو المختصين آمال بأن تؤدي السيطرة على جائحة كورونا إلى التلاشي التدريجي لأزمة سلاسل التوريد التي تعصف ببعض الدول الكبرى اقتصاديا. بينما يحذر البعض من أن تحول عودة ارتفاع الحالات في بعض الأماكن وموجات الشراء الموسمية في الدول الغربية والظروف الجوية دون انحسار أزمة سلاسل االتوريد قبل منتصف العام المقبل. ولتجنب الاستغلال السيئ للأزمة ووقف استغلال بعض الأعمال لها والحجب الجزئي للمنتجات سعيا وراء التربح الفاحش ورفع الأسعار بنسب غير مقبولة، لا بد من مراقبة تصرفات وترتيبات الأعمال وأسعار المنتجات المتأثرة والحد من قوى الاحتكار وتفعيل أنظمتها قدر الإمكان.
إنشرها