أثر التحولات الاقتصادية في سلوك الإنسان

لا أخفي قلقي من حالة الاقتصاد العالمي اليوم، هناك كومة هائلة جدا من الديون تزداد يوما عن يوم، وتبدو آليات التقييم الأساسية للسلع فاشلة تماما في كبح جماح التضخم، خاصة بعد جائحة كورونا، فالرغبة في حماية الاقتصاد جعلت الدول تدعم بغير تفسير كاف لما يجب دعمه فعلا وأين، ومع ذلك وبعد كل الدعم السخي تبدو الصورة غير واضحة، فهل نحن أمام حقبة جديدة من تحول اقتصادي ضخم أو على مشارف أزمة لا حل لها؟ لفهم الصورة كاملة، لا بد من العودة للدروس القديمة، فالمشكلة كانت وما زالت في فهم العطب الذي يصيب آليات الاقتصاد الكلاسيكية وهي العرض والطلب، وقد يمضي وقت طويل ومهم جدا قبل إدراك الحقيقة كاملة، إن هذا يشبه تماما ملاحقة أسعار الأسهم في السوق المالية، فمع حمى الشراء أو البيع قد لا تدرك أن ذلك مستدام أو مجرد حدث عرضي، إلا بعدما تكون فرصتك في اتخاذ القرار قد ذهبت تماما.
لقد ظل الاعتقاد سائدا أن الأسواق الحرة قادرة على التصحيح الذاتي كصفة ملازمة، وهي فكرة أتت من زمن آدم سميث، عندما سدت الحتمية الإنجليزية كل منافذ الفكر الإنساني آنذاك، لكن رغم التحولات الكبيرة في فلسفة العلم عموما، فإن هذه الفكرة لم تزل قائمة، لكن مع تعديل مهم يحتم على الدولة التدخل إذا لزم الأمر، وكان ذلك مع غلبة الفكر النسبي في بدايات القرن الماضي الذي يعد كنز أحد تلاميذها بلا شك، فحتمية آلة السوق صحيحة لكن نسبيا، ولا بد من تدخل الدولة إذا أصبحت هذه الآلة ضارة.
لكن، ما الضرر الذي يصبح معه تدخل الدولة ضروريا؟ مع الأسف هناك قليل من الأعمال المقبولة عالميا بشأن هذه المعالجة.
هناك مقولة لروزفلت قبل الكساد الكبير بأنه "ليس لدينا ما نخشاه سوى الخوف نفسه" وذلك في خضم حديثه عن تعزيز حرية الأسواق، لكن أعوام الكساد أثبتت أن حرية الأسواق قد تكون مخيفة أيضا، وعادت بالصورة نفسها مع الأزمة المالية العالمية، وكذلك الآن مع انتشار جائحة كورونا، فضمان حرية البعض قد يكون خطيرا جدا على حياة الآخرين.
هنا تجارب عالمية بشأن تدخل الدولة بشكل خاطئ، ولو كانت بتوصيات من صندوق النقد الدولي، لعل أشهر تلك التجارب التي شهدتها إندونيسيا خلال أزمة النمور الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي. فكما هي الحال في كل أزمة رأسمالية، فإن تضخم الدين العام والخاص شكل أزمة ائتمان، ورغم أن ترك السوق تعمل بقواعد الإفلاس كجزء أساسي من مفهوم حرية الأسواق والرأسمالية الليبرالية، وعلى المقرضين تحمل تبعات القرارات السيئة، لكن وجود صناديق استثمارية عالمية وبنوك دولية قد جعل صندوق النقد الدولي يتخلى عن قداسة أفكاره الأساسية ويقنع الحكومة الإندونيسية حينها بضرورة الدعم على أساس ضرورة احترام العقود، وإنقاذ الدائنين الأجانب، رغم فشلهم في بذل العناية الواجبة عند الإقراض.
وتكررت المعالجة الغامضة لتدخل الدولة في الاقتصاد بتوصيات صندوق النقد مع روسيا إبان فترة الخروج من ثوب الشيوعية، ففي بلد لم يتم إصلاحه اجتماعيا بشكل كامل وصحيح ولم تزل مفاهيم العقود والثقة مهزوزة، فقد تم التحول إلى رأسمالية الأسواق بسرعة من خلال تكرار تجربة تاتشر في الخصخصة، وتحرير أسواق رأس المال لبث الحماس في العالم أن هذا مكان جذاب للاستثمار، وعلى أساس أنه بمجرد أن يتم تحرير قوى السوق وتتدفق الأموال، فإن الوظائف ستكون وفيرة ويزدهر الاقتصاد، لكن الذي حدث هو تجربة مشوهة مع تشوه اجتماعي وفجوات كبيرة بين عدد قليل من الأثرياء وأغلبية ساحقة من الفقراء، ووصل الأمر إلى حد فشل الحكومة الروسية في دفع مستحقات المتقاعدين الفقراء، وفي نهاية تلك التجربة السيئة، غادر رأس المال بسرعة حضوره، لأن قواعد تحرير السوق سمحت لأثرياء روسيا بنقل ثرواتهم خارج البلاد، فيما أصبحت تلك المظاهر مثارا للسخرية في الأفلام الغربية كافة. وهناك تجارب أكثر بغضا من مثل تجربة الديون السيادية السيئة لكرواتيا عام 1997، وفي جنوب إفريقيا، وباختصار لقد كانت تحولات الدول النامية نحو حرية الأسواق خارج سياق اجتماعي مناسب بل محدود، تنتهي مع إجبار البلاد على الالتزام بصرامة قواعد الاقتصاد العالمي وآليات حساب التضخم وإعادة احتساب الرواتب، وفرض الضرائب، بغض النظر عن الوظائف والحالة الإنسانية العامة.
وللإجابة عن السؤال الصعب، متى يكون التدخل مفيدا، ومتى يصبح غير ذلك؟ فإنه من خلال قراءة التجارب العالمية، نجد أن الاقتصاد يؤثر في الإنسان ويتأثر به، بمعنى أوضح؛ لا بد من قراءة أثر التحولات الاقتصادية في سلوك الإنسان بحرص شديد، وتتم قراءة كل التحولات الديموغرافية والاجتماعية بين صعود وهبوط، من يتقدم ويتأخر. مراقبة تتسم بالصرامة والاستدامة، حيث يتم تعديل شكل ونوع وحجم التدخل في الوقت المناسب، فالاقتصاد جزء من مجتمع ليس غاية في حد ذاته، لكن كوسيلة لتحقيق غايات أكثر جوهرية، وإذا كنا مع الخصخصة لتحقيق حرية المنافسة، فإن الخصخصة أداة قد تقودنا نحو مسار غير الذي كنا نؤمله، فإذا لم تحافظ على الوظائف والتوطين والأسعار، فيجب أن نعدلها نحو الأفضل أو نعود بكل شجاعة، فالمجتمع وسلامته هما الغاية الأهم، والاقتصاد تابع متغير له.
لقد حاولت الرأسمالية، ولم تزل تحاول، إنشاء مجتمع يكون الاقتصاد فيه مستقلا، ذاتي الحركة، لكن واقع التجارب العالمية يؤكد أن هذه الحالة الذهنية لا وجود لها فعليا، وكما يقول المؤرخ الاقتصادي كارل بولاني في كتابه التحول العظيم: إن ظهور مجتمعات حكمتها الأسواق في أوروبا لم يكن حتميا، بل كان إمكانية تاريخية، وكان يرى أن اقتصادات مستقلة ذاتية الحركة لن توجد في أي فترة زمنية دون القضاء على الإنسانية، وفي ظني أن الأزمة الاقتصادية المقبلة لا محالة ليس في بنيتها حل إطلاقا، إلا لأولئك الذين أعادوا قراءة التراث الاقتصادي عموما، خاصة ذلك الذي لم تتم قراءته بعناية حتى الآن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي