Author

من يصنع الثقافة والفكر؟

|
في مقال الأسبوع الماضي تناولت معرض الكتاب، التظاهرة الثقافية الكبيرة، وما لاحظته خلال زياراتي من تنظيم، وحالة اشتياق ظهرت على سلوك الزوار الشرائي، وهذا ليس بمستغرب على أمة "اقرأ"، خاصة بعد فترة انقطاع دامت ما يقارب العامين، ورأيت في مقال اليوم محاولة الإجابة عن سؤال طالما ألح علي لفترة طويلة، لكن يأتي من المواضيع ما يصرفني عنه لأهميتها في ظرفها الزمني الذي يلح علي بالكتابة بشأنها لمناسبتها حدثا، أو وقتا معينا، تفقد قيمتها لو تأخرت الكتابة عنها في ذلك الوقت.
السؤال الذي ألح علي كثيرا يتمثل في: من يصنع ثقافة، وفكر المجتمعات؟ أي: هل يوجد جهة بعينها، أو جهات هي من تتولى هذه المهمة، سواء كانت رسمية، أو غير رسمية، كجهات تطوعية، أم أن الأمر متروك للاجتهاد، والقدرة الفردية؟.
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال ما لم يتم فحص أحداث التاريخ، والرموز التي كان لها دور في التأثير، وصناعة الثقافة، والفكر المجتمعي، شواهد التاريخ البشري تشير إلى رموز تنتمي لثقافات، ومجتمعات تختلف في أسس بنائها، ومصادر التأثير فيها، فالأنبياء والرسل - عليهم السلام - كان لهم دور بارز في وضع لبنات التغيير في المعتقد الذي بدوره يحمل معه طريقة تفكير الفرد، والمجتمع العامة، وأهداف الإنسان في الحياة، ومحددات السلوك الواجب مراعاتها بهدف إيجاد المجتمع المتماسك بناء على ما يجمع بين أبنائه من ثوابت تجد التقدير، والاحترام، والعناية من الجميع، أو على أقل تقدير أغلبهم.
رسالة الأنبياء أوجدت معها مؤسسة اجتماعية تتمثل في المسجد، أو مواقع أخرى، حتى في الديانات غير السماوية يلتقي فيها الناس للعبادة، وتلقي الإرشادات، والنصح، وبما يسهم في تقويم، وإصلاح السلوك، وتشكيل طريقة التفكير، وإن كان في الأغلب دور المؤسسات الدينية يقتصر على إصلاح المعتقد، إلا أنه مع الوقت ومع تفسير النصوص الدينية، وشروحها أصبحت المجالات التي يتم تناولها تتشعب لترسم فلسفة التربية، والتعليم، والاقتصاد والسياسة الداخلية، والخارجية، وقوانين الحرب، والسلم، وغير ذلك، حتى أصبحت هذه، وغيرها تخصصات تدرسها الجامعات، والمعاهد العليا في كثير من الدول.
الفلاسفة، وأطروحاتهم المتشعبة بشأن الحياة، والموت، والكون، والنظم الاجتماعية، والقيم، والجمال فتحت أبوابا كثيرة أسهمت بشكل كبير في إثراء الثقافة، واتساع أفق التفكير، وإن كان في بعض الأطروحات شيء من الشطح، بما يحدثه من شك، واضطراب في طريقة التفكير، وما يترتب على ذلك من سلوك، وتصرف يصل لحد الإنكار، والانحراف. في زمننا الحاضر أصبح الإعلام بجميع أنواعه، وصوره يسهم بشكل كبير في تشكيل الثقافة، ورسم ملامح التفكير السليم المنضبط بقواعد المجتمع، وثوابته، أو ما يتعارض معها ليتشكل مع الوقت جيل ينكر الثوابت، ويصادمها في أطروحاته، أو سلوكه.
المدرسة بلا شك لها دور في ترسيخ لبنات التفكير الأولى بما تقدمه من معرفة، وعلوم، وأمثلة لرموز ثقافية، أو ممارسات، إلا أن المدرسة لا يمكنها ضمان ثبات الأفراد على ما تم تعلمه طالما وجدت مصادر أخرى تأثيرها ربما يفوق تأثير المدرسة لما تتميز به هذه المصادر من أدوات، وأساليب مغرية للأطفال، وجيل الشباب خارجة عن الأساليب التقليدية. بعض الدول أوجدت وزارة للثقافة تشرف على المسارح، والسينما، والأندية الأدبية، ومعرض الكتب، والأنشطة ذات العلاقة كافة، إلا أنها لا يمكن أن تنفرد بصناعة الثقافة والفكر في زمن الفضاءات المفتوحة على كل شيء الجميل والسيئ.
صناع الثقافة، ومولدو الأفكار عبر التاريخ تجمع بينهم خصائص لا تنكرها العين، ويقبلها العقل بلا تردد، فهم لهم سياحة معرفية، وفكرية واسعة، وعميقة في الوقت ذاته، كما أن أطروحاتهم ذات امتداد تاريخي، وجغرافي، وعرفت عنهم المناظرات، ويعقدون دروسا علمية يغشاها الطلاب، وباعهم في التأليف طويل، وتدرس علومهم، ونظرياتهم في الجامعات، ومدارس الفكر العليا، وهذا خلاف من يتصدرون المشهد الثقافي بعناوين كتب أشبه ما تكون بالفلاشات الخاطفة للنظر، لكن عند فحص المحتوى لا يجد القارئ ما يشبع نهمه، ويروي عطشه، ذلك أن بعض الكتب إن جاز تسميتها بذلك لا يعدو عن رؤى، وتسطيح للعقول، وصرف للاهتمامات عما هو مفيد، ودس لما هو ضار يصيب العقل بالعقم، ويمكن تشبيه هذا النوع من المحتوى بالوجبات السريعة، إذ تشعرك بالشبع لكن آثارها الصحية بلا حدود.
إنشرها