Author

التنمر المؤسسي وتمرير السم في العسل

|
يستحق التنمر، بجميع أشكاله، تسليط الضوء والتمحيص، فهو يحدث في كل محيط نعيش فيه. يفتك هذا السلوك العدواني المتكرر المخطط له بالمكتسبات التي يصنعها الأفراد والمجموعات في المنزل والمدرسة وأماكن العمل. وإذا نظرنا إلى التنمر في مكان العمل لوجدنا قائمة طويلة من أشكال التنمر التي قد تنقل الموظف من حالته الطبيعية إلى حافة الاكتئاب وقد تدمر ثقافة المنظمة وتزرع الألغام في كل زاوية من زواياها. يعتقد كثيرون أن هناك أشخاصا صادقين يخونهم أسلوبهم أو حماسهم ويتجاوزون بحسن نية على زملائهم أو على ثقافة ومكتسبات المكان، ولكن في الحقيقة هم متنمرون وبلطجيون من الدرجة الأولى، وفي كثير من الحالات قد يكون تجريم أفعالهم ومعاقبتهم أقل ما يستحقون.
تعج أماكن العمل بأشكال التنمر المختلفة، من التنمر الفردي في مكان العمل وأذية الزملاء بالتعامل السيئ المتكرر والمباشر، كالتقليل والاحتقار والشتيمة والتطاول والتجاهل إلى أشكال أكثر ذكاء وأعم ضررا من التنمر المؤسسي، ما يصل إلى حد التذاكي المدروس وقلب طاولة الحوكمة واكتشاف الثغرات وتجيير السياسات والإجراءات للمصالح والرغبات الشخصية. بل إن هناك من يعد برامج الإصلاح الراديكالية المبالغ فيها التي تتسم بسرعة وحدة غير مبررة من أشكال التنمر المؤسسي.
تعد الحوكمة شبكة الحماية الأهم ضد مظاهر التنمر الوظيفي، لذا هناك من يشارك مبكرا في لوي قواعدها لتحقيق مآربه، وخصوصا ما يرتبط بالتنمر الذي يحدث على الجانبين المؤسسي والتنظيمي، أو ما يطلق عليه أحيانا التنمر القانوني. هناك من يعرف كيف يشكل اللجان بطريقة تخدم أجندته، ومن يستمتع بإعادة هندسة إجراءات الشركة لتنفيذ ما يستسيغه هو، لا ما يخدم المنظمة بالضرورة، سواء بوجود مكاسب مباشرة واستغلال واضح لموارد الشركة – ما قد يدخله في جرم الفساد والاحتيال – أو من يقوم بذلك استمتاعا وخبثا متأصلا في سلوكه السلبي وجريا خلف مصالحه الخاصة. ولأن هؤلاء يملكون من الخبرة السلبية الكثير، فهم يعرفون كيف يلوون الأنظمة واللوائح وترتيب الاستحقاقات بالطريقة التي تخدم أهدافهم، إذ يقومون بترتيب طريقة العمل لهم ولغيرهم للاستفراد بالإنجازات وتلميعها أو لتجيير قوى الرقابة والتحسين بعيدا عن مسارهم.
هناك من يتقن هذه الأعمال لتحقيق مصلحته الشخصية، فهو يعرف كيف يعيد توزيع الضغط داخل مكان العمل ما يسرع له من نموه الوظيفي من دون تجاوز النظام، وغالبا ما يكون هذا على حساب تحقيق القيمة للمنظمة، أو على حساب زملائه الموظفين. ولا يكون هؤلاء المتنمرون في مواضع عليا بالمنظمة، فهناك من يتقن التنمر وهو في زاوية بعيدة عن النظر في مقر العمل، إلا أن ازدياد حجم الصلاحيات يمنح مزيدا من القوة للمتنمر ويجعله أكثر قدرة على إخفاء تصرفاته أو التقليل من وقعها. من المتنمرين الأذكياء من يعرف كيف يشرح القصة الاستراتيجية للمنظمة ويعيد تعريف مستهدفاتها وصياغة أساليب العمل بطريقة تخدم تنمره وعدوانيته. مثل هؤلاء لا يكونون متقاعسين بالضرورة، على العكس تماما، قد تجدهم في حضور مستمر ويعملون بطريقة تخفي تصرفاتهم المشينة.
أسوأ ما يمكن أن تجده من أشكال التنمر المؤسسي عندما يقوده شخص أو أشخاص مسؤولون أساسا عن الرقابة في مكان العمل، مثل المدير المالي أو مسؤول الحوكمة والقانون أو مدير الموارد البشرية أو مسؤول المراجعة الداخلية. ستجده يرتب اللجان والأساليب التحقيقية ويمرر أساليب اكتشاف المخالفات ونقاط الضغط على الموظفين والفرق والإجراءات بالطريقة التي يهواها، التي لا تحقق القيمة المنشودة من الرقابة، بل تعمل على عكس أهدافها وتقويض مبتغاها. بل إن التنمر المؤسسي قد يأتي أحيانا من مجالس المديرين ولجانه ومن الرؤساء التنفيذيين، الذين لا يستشعرون ما يحدث على أرض الواقع ويجعلون أولويات المنظمة في فوضى مستمرة، يفتحون الجبهات التي لا مكسب من خوضها ويغضون الطرف عما يستحق الاهتمام والدعم.
وعلى الرغم من أن التنمر الوظيفي قد يظهر بشكل مقبول أحيانا مثل المزاح والتركيز على الاستنقاص من أفراد محددين ولا يتم استنكاره، إلا أنه أسهل اكتشافا من التنمر المؤسسي الذي قد يتم تصميمه وتمريره والاعتياد عليه حتى يصبح مقبولا ولا يشتكي منه أحد مع أن الجميع يشعر بالألم منه. وهذا من أسوأ أنواع التدمير لثقافة المنظمة وللكيان المؤسسي الذي تقوم قيمته الأساسية على ثقافته وقدرته على تحويل الأجزاء إلى كل أكبر. لهذا، يعد السكوت عن التنمر المؤسسي مثل السكوت عن تنمر الأطفال، أفضل الطرق لترك أعشابه الضارة تنتشر في المكان وتدمر كل محتمل إيجابي. في اعتقادي أن مكان العمل الذي تنتشر فيه أشكال التنمر ولا يتم إنكارها بشكل واضح يحتاج إلى القيام بالتصحيح المباشر، الذي يبدأ بالتوعية والتوثيق والتفاف المسؤولين عن الحوكمة والرقابة مع بعضهم بعضا. وإن لم يتسن ذلك، بسبب التجاهل أو بسبب فساد البيئة وضعفها وهشاشتها، فهي تجربة ممتازة للتعلم والملاحظة ومن ثم الابتعاد في أقرب فرصة.
إنشرها