Author

ظواهر ودروس من الأزمة

|

واجه العالم خلال أزمة كورونا تحديات لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. واتخذت دول العالم سياسات وإجراءات متفاوتة للحد من آثارها الكارثية في الحياة البشرية والاقتصادات. وحققت دول معينة نجاحات باهرة بينما عانت أخرى عواقب وخيمة على الحياة الإنسانية والتفاعلات الاقتصادية والاجتماعية. واكتسب العالم خبرات هائلة في مواجهة الكوارث الصحية والاقتصادية والإنسانية أثناء فترة التعامل مع الأزمة وردود الفعل عليها. عموما خرجت البشرية وما زالت بدروس وعبر من الأزمة يصعب حصرها، ولكن سيتم التطرق لبعضها.
عمل حجم الدول بطريقة معاكسة لنجاحاتها في التصدي للجائحة، حيث سجلت الدول الصغيرة نجاحات باهرة في التصدي لها مقارنة بالدول الكبرى. وتقف نيوزيلندا وتايوان وسنغافورة وعدد آخر من الدول الأصغر كأفضل الدول في مواجهة الوباء والتصدي للأزمة. ويصعب كبر الدول واتساع أرجائها من السيطرة على انتشار الوباء، حيث تتوزع الصلاحيات وتتنوع الشرائح السكانية، وتكثر المنافذ وتزدحم المدن والتجمعات السكانية. وعانت التجمعات السكانية الكبرى والمباني المزدحمة بدرجة أكبر الجائحة؛ ما سيؤثر مستقبلا في أفضليتها مقارنة بالتجمعات السكانية الأقل سكانا.
أبدى بعض شعوب الشرق الأقصى انضباطا أكثر من غيرها بالإجراءات، وأظهرت مجتمعاتها أفضل درجات التعاون مع السلطات. أما الدول الإسلامية (ما عدا إيران) والنامية فقد تأثرت بدرجة أقل من الدول الغربية بالجائحة. وقد يرجع هذا إلى الممارسات الدينية المركزة على النظافة بدرجة أكبر من المعتقدات الأخرى، أو المخفضة لمعدلات تناول الكحول وتجمعاته. وقد يعود إلى ارتفاع نسب الشباب وانخفاض نسب كبار السن في إجمالي السكان، أو لوجود ثغرات في الشفافية والبيانات والإبلاغ عنها.
أعادت الجائحة وإجراءات الإغلاق والحجر الصحي التركيز على أهمية المنزل والأسرة. وأثارت مناظر كبار السن في منازلهم أو بيوت رعايتهم وعزلتهم الشفقة والألم لدى كثير من البشر، ما سيغير نظرة المجتمعات للعناية بكبار السن وضرورة إعادة احتضانهم داخل الأسر. من ناحية أخرى، قاد الإغلاق والبقاء في المنازل لفترات طويلة، إلى إعادة اكتشاف الأسر حياتها واحتياجاتها، وازدادت الضغوط النفسية على الأفراد؛ ما رفع أهمية العلاقات الأسرية والتآلف والتواصل الأسري. في الجانب الآخر، عانت أسر كثيرة الضغوط النفسية وتسببت في تردي العلاقات بين أفرادها وازدادت معدلات تفكك الأسر في بعض الدول. أما نوعية ومساحات المنازل فقد تعزز تأثيرها أثناء الجائحة، حيث عانى سكان المنازل الصغيرة، وخصوصا الأطفال، ضيق مساحات المعيشة والحركة.
تفاوت أداء المجتمعات والدول الغربية في كفاءة التصدي للجائحة، وإن اتصف عديد منها بضعف الأداء. وتشير تطورات الأحداث في الدول الغربية خلال الجائحة، إلى أن مجتمعاتها ليست نظامية، كما يعتقد من قبل، بل إنها تعاني مستويات فوضى ملحوظة. وأظهر عدد كبير من سكان الدول الغربية تحديا لإجراءات الوقاية والسلامة من الجائحة، كما عارضت ورفضت نسب كبيرة من السكان أخذ التطعيمات المطورة ضد الجائحة. ومن المستغرب إبداء عديد من عالي التعليم والثقافة والسياسيين والمؤسسات في المجتمعات الغربية تجاهلا للحقائق والإحصاءات العلمية، بل تعمد عدد منهم نشر معلومات كاذبة وخاطئة. ومن الغريب أيضا إيمان نسب كبيرة بمن فيهم متعلمون بسيادة نظريات المؤامرة وسيطرتها على تفكيرهم ومعتقداتهم حتى بدا بعضهم جاهلا بحقائق الأمور. أما بالنسبة لأداء الحكومات الغربية، فقد تباطأ عديد منها ولم يوفق بعضها بسبب المناكفات السياسية وتوزع السلطات وتراخي بعض القادة وتجاهلهم للحقائق العلمية.
جددت الأزمة أهمية البحث والمنهج العلمي في التصدي للأزمات ومنها الأوبئة. ولا يقتصر الأمر على تحقيق نجاحات في البحث العلمي والتقني داخل الدول، ولكن الأهم منه ضرورة التقيد بالمنهاج العلمي في التصدي للأوبئة والأزمات بشكل عام. وكانت الدول الأكثر نجاحا في التصدي للجائحة هي الدول التي بنت سياستها على آراء الخبراء المختصين والمنهج العلمي، أما الدول التي تعمدت قيادتها تجاهل توصية العلماء لخدمة أجندات سياسية أو مراكز قوى فقد تعرضت لفشل كبير في التصدي للأزمة، بل تكبدت خسائر تفوق خسائر الدول الحذرة.
أظهرت الأزمة فعالية مركزية صنع القرار في التصدي للأوبئة وأهمية الحزم في تبني وتفعيل السياسات والإجراءات السليمة والمناسبة في الوقت المناسب. وحققت الدول التي التزمت بهذا المنهج نجاحا في مواجهة الأزمة بينما عانى بعض الدول التي يتشتت بها صنع القرار نتائج كارثية. وأبرزت الجائحة أيضا الأهمية الكبرى للشفافية في التصدي للأوبئة والأزمات بشكل عام، حيث قاد تأخر وإخفاء بعض المسؤولين الصينيين للمرض، إلى انتشاره داخل الصين ومن ثم إلى العالم.
رفع انتشار المرض من أولويات الأمن الصحي للدول والعالم، وأثبت أنه لا يقل أهمية عن الأمن الدفاعي. وبين الانتشار السريع للمرض - رغم الاحتياطات المتخذة - مدى الترابط القوي بين أمن الدول الصحي وضرورة تعاون جميع دول المعمورة للدفاع عن الأمن الصحي العالمي بغض النظر عن الخلافات السياسية والعقائدية. ورفع الانتشار السريع للمرض من أهمية الاتفاقيات الدولية التي توجب على دول العالم الرصد والإبلاغ السريع عن الأوبئة والحالات المتأثرة بها للحد من انتشارها، فتفريط أو تقصير دولة ما في رعايتها الصحية ورصد الحالات أو الإبلاغ يلحق الضرر بأرجاء العالم.

إنشرها