Author

سؤال الحمام

|
خطرت في بالي قصة، حدثت قبل ثلاثة أعوام، لرجل سألته طفلته: "كيف كنتم تعيشون قبل الجوال، هل كنتم تستخدمون الحمام الزاجل؟" وما أعقبها من نقاش شاركت فيه، وصعوبة إدراك طفلة في السابعة أو السادسة من عمرها كيفية العيش دون الهواتف الذكية، لاحظ دون الهواتف الذكية، وليس الهاتف الجوال الذي كان بذاته نقلة مهمة، لكن أهميتها ذابت بسرعة.
اليوم ربما من هو أكبر منها سنا من مواليد الألفية الجديدة، يحمل أسئلة مماثلة قد تبدو لنا ساذجة أو طريفة، لكنها تشير إلى أفكار مهمة وعميقة.
يأخذني السؤال وذكرياته إلى أعماق وجودية ربما تكون مهمة، فنحن كنا قادرين على تخيل معيشة آبائنا وأجدادنا، وأبناؤنا الشباب الكبار يستطيعون معرفة أننا كنا لا نستخدم الحمام الزاجل، وعده عمقا وجوديا، لأنه مرتبط بسؤال: من أين أتيت؟ ولعل تبسيطه يكون: من أين أتى أبي وأمي، وكيف كانا، ولا أعرف إن كان لهذا علاقة بمحاولة تحديد المستقبل أي سؤال: إلى أين سأذهب؟
لا أسأل من الناحية العقدية، فنحن المسلمين لدينا إجابات ثابتة يعقلها الكبار، ويعلمونها الصغار الذين تذهب أسئلتهم البريئة إلى سبل العيش لا غايته، خاصة أن بعض هذه السبل تصبح عصية على إدراكهم الواقعي الذي يغزوه الافتراضي.
جيل المستقبل في معظم أنحاء العالم لن يستطيع تخيل إجابات آبائهم وأمهاتهم، والمتوقع أن الفجوة تزداد بين ما يعيشون، وما نحاول أن نجعلهم يتخيلونه في محاولاتنا التربوية لربطهم بالأصل، خاصة أن تأثير التربية والتعليم يتعرض للنهش الرأسمالي الممنهج عبر أباطرة التقنيات الرقمية الحديثة.
من لديه تفاوت كبير بين أعمار أبنائه، ولديه هاجس المجابهة التربوية مع هذا الإغراق الافتراضي والتقني يلحظ فروقا في الالتزام القيمي، وهذه الفروق ليست بالضرورة في تربيته، بقدر ما هي تغير في القيمة الإنسانية تبعا للقيمة الافتراضية كلما صغر عمر الطفل وكان ممن وعى الحياة وكل شيء حوله، فهو مرتبط بجهاز ذكي وتطبيقات تفترض الذكاء ووجود إمكانية الاتصال بالإنترنت، أي: الاتصال بالعالم، العالم الافتراضي الذي هو سور يفصله عن الواقع، السور الذي يرتفع يوما بعد يوم.
أطرح سؤالا صغيرا: من أين عرفت الطفلة أعلاه أن الحمام الزاجل استخدم في المراسلة والتواصل: من والديها، أم من المدرسة، أم من جهاز ذكي؟
بعض النقاشات لا تندثر، وبعض العقول التي نناقش لا تتكرر.
إنشرها