Author

دروس إحصائية اقتصادية من أفغانستان

|
أستاذ جامعي ـ السويد

أمضيت الأسبوع الماضي في قراءة الصحافة الغربية - الأمريكية والبريطانية خصوصا - للاطلاع على ما تقدمه من أفكار ومواقف حول الحدث الجلل - وهو الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان. وركزت على التحاليل ومقالات الرأي. وما لاحظته كان الاهتمام البارز بمراجعة النفس ومن ثم استخلاص الدروس مقارنة بما حدث في أفغانستان بالماضي، وما حدث لحروب وغزوات أمريكا في العصر الحديث، وما قد يقع للدول والمناطق التي تستظل بالحماية الأمريكية، إضافة إلى شؤون تخص الاقتصاد والسياسة وغيرهما من المضامير.
وقبل أن ألج في نقل خلاصة ما قرأته لقرائي، أقول من النادر أن أظهر كاتب أو صحيفة أو موقع "وهنا أتحدث عن أكثر وسائل الإعلام انتشارا وتأثيرا" اهتماما بالشعب الأفغاني بعد أن نفدوا بجلدهم تاركين وراءهم أسلحتهم ومعسكراتهم ومئات الآلاف من الأفغان المتعاونين معهم.
كان هناك ذكر للخسائر الأمريكية بالأرواح التي بلغت حسب الإحصاءات الرسمية 2,448 عسكريا، لكن حتى الرقم الكبير هذا لم يأخذ من الاهتمام والتركيز مثل "تريليوني دولار"، التكلفة التخمينية الأولية لنفقات الحرب. أما الشعب الأفغاني وخسائره البشرية والمادية فلم تلق أي اهتمام. الرقم الوحيد الذي وقعت عليه عيناي للقتلى من الأفغان في حرب أمريكا في أفغانستان ورد في مقال افتتاحي في صحيفة "نيويورك تايمز"، حيث قدرته استنادا إلى مصادر لا أرى أنها موثوقة بنحو 60 ألفا. ورقم الضحايا من الأفغان رغم هوله لا يمثل الواقع، وأتى مجردا من أي سياق. مثلا، عند ورود الأرقام حول القتلى من الأمريكيين كان هناك عتاب وشكوى وتعاطف ودعم لموقف العائلات الأمريكية التي فقدت أبناءها.
ولم أقرأ أي شيء عن تقارير الأمم المتحدة والتقارير الأمريكية ذاتها أن الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان لم يكترث للقتلى من العراقيين والأفغانيين إلى درجة عدم إدراجهم في الإحصائيات الخاصة بعدد الضحايا، وهذا يخالف ليس العرف العسكري بل أبسط مبادئ حقوق الإنسان.
فالدورية العسكرية مثلا عندما تنهي مهمتها تقدم تفصيلا بالحوادث المهمة التي وقعت وتصبح رسميا جزءا من التدوين. في حالة العراق وأفغانستان، لم يكن الجيش الأمريكي ملزما بتقديم أي إحصاء عن القتلى من العراقيين والأفغان، لأنهم من الكثرة حيث يصعب إحصاؤهم.
ولم ألحظ أي اهتمام بمستقبل أفغانستان بعد احتلال استمر عقدين من الزمن ومصير اقتصادها وشعبها، حيث تعد أفغانستان من الدول الأقل نموا في العالم. وكان التركيز على "تريليوني دولار" التي قلما خلا تقرير من تكرارها عدة مرات، ووضعها ضمن سياق مجمل الاقتصاد الأمريكي وكذلك ضمن تبعاتها على دافع الضرائب الأمريكي.
بالطبع مبلغ "تريليوني دولار" مبلغ خرافي. وكي أقربه للقارئ أقول إنه يساوي نحو أربعة أضعاف الناتج القومي الإجمالي في السويد، التي تعد واحدة من أكثر دول العالم رقيا ورخاء، وكي أقربه أكثر فإن التريليون الواحد يساوي ألف مليار دولار. والصحافة الغربية تتحدث بإسهاب عن الخسائر المادية للحرب، فإنها لم تعرج على الوضع الاقتصادي البائس لأفغانستان و38 مليونا من سكانها، أغلبهم تحت خط الفقر.
الولايات المتحدة وحلفاؤها غادروا أفغانستان وتركوا وراءهم اقتصادا منهارا بالكاد تصل قيمة الإنتاج القومي الإجمالي فيه 20 مليار دولار نسبة إلى سعر صرف الدولار. أنفقوا تريليوني دولار في عملياتهم العسكرية وعندما غادروا لم تتجاوز قيمة الاقتصاد الأفغاني برمته 20 مليارا.
جميل أن تقرأ ما يشبه "جردة حساب" في الصحافة الغربية هذه الأيام. نعم هناك جراءة كبيرة من النقد الذاتي، وكيف أن الحرب في أفغانستان صارت جزءا من ماكينة المصالح والصراعات الداخلية في أمريكا ودور شركات السلاح أو مجموعات الضغط في إبقاء نيران الحرب هذه مشتعلة حتى تحولت لواحدة من أطول الحروب في العصر الحديث وأطول حرب خاضتها أمريكا في تاريخها.
لقد دخلت أفغانستان التاريخ لا بل صنعت التاريخ، حسب الصحافة الغربية، لأنها الدولة الوحيدة التي استطاعت هزيمة ثلاث إمبراطوريات في العصر الحديث: بريطانيا، الاتحاد السوفياتي السابق والآن الولايات المتحدة، الدولة الأعظم والأقوى في تاريخ البشرية.
"أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات" كانت العبارة التي رددتها الصحافة الغربية وأكدها كبار كتاب الأعمدة. وقرأت مقالات دسمة حول أن الكل اليوم بدأ يتحسس وضعه نتيجة الهزيمة في أفغانستان، خصوصا المستظلين بالحماية الأمريكية، وأن دولا في أنحاء كثيرة من العالم ومجموعات عديدة يعتمد وجودها على الحماية الأمريكية بدأت تعيد حساباتها. وما جذب انتباهي كانت جملة بنت عليها صحيفة "إنكوايرر" الأمريكية مقالا افتتاحيا مهما لها. والجملة التي حسب قول الصحيفة، كانت على مدار الألسنة في أفغانستان طوال الـ 20 عاما الماضية حتى يومنا هذا، أخذت مكانتها كمثال شعبي في الخطاب الأفغاني وهي: "الأمريكان يملكون ساعات رولكس، لكن الزمن والتوقيت ملكنا".

إنشرها