فتور وثغرات بريكست  

  حقق الاقتصاد البريطاني قفزات لافتة منذ بداية العام الجاري، وإن كانت غير حاسمة بعد على صعيد طريق التعافي، والعودة إلى الوضع الطبيعي. وهذا التعافي شمل معظم الدول الأوروبية في الفترة الأخيرة، وذلك في أعقاب عودة اقتصاداتها إلى حراكها الذي سبق تفشي وباء كورونا، لكن في الشهر الحالي تعرضت مسيرة التعافي على الساحة البريطانية لتباطؤ حاد وذلك بسبب عوامل مختلفة كثيرة. 
وهذا التباطؤ كان متوقعا، وله روابطه المتعلقة بفيروس كوفيد - 19، وكذلك بقرار المملكة المتحدة الانسحاب من تكتل الاتحاد الأوروبي "بريكست"، فقد خرجت البلاد من هذا الاتحاد تماما في مطلع العام الجاري، وكانت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن كورونا في أوجها، فيما لا تزال هناك خلافات حول تفاصيل تنفيذ اتفاق الخروج، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بمستقبل إقليم إيرلندا الشمالية، وغير ذلك من الخلافات المتعلقة بالصيد. 
وعودة الحدود بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بداية العام الجاري، أحدثت أزمتين شديدتين لبريطانيا، تتعلقان مباشرة بالجانب الخاص بمؤشرات الاقتصاد الوطني، الأولى تراجع أعداد العاملين في كل القطاعات على الساحة البريطانية، ولا سيما الخدمية منها من جراء عودة أعداد كبيرة من الأوروبيين إلى دولهم بفعل قوانين "بريكست" الجديدة، أما الأخرى، فترتبط بالمواد الأولية وخصوصا تلك الآتية من دول الاتحاد الأوروبي، أو المارة به. هذان العاملان، أسهما في تباطؤ مسيرة تعافي الاقتصاد البريطاني. 
وأزمة العاملين تتقدم حتى على تراجع زخم المواد الأولية، إلى درجة أن طالبت المؤسسات المختصة بالمتاجر الكبيرة، بما فيها تلك التي تبيع المواد الغذائية، من الحكومة البريطانية بالسماح لشرائح غير خطيرة من السجناء بالعمل لديها، لسد النقص في العمالة. ويعتقد أن ذلك العامل الأخير هو صلب القضية، والقاعدة الأساسية، لها في ظل اعتماد بريطانيا على عدد كبير من العمالة الأوروبية في كثير من قطاعاتها الاقتصادية والتجارية وخاصة في مجال المصانع، والمزارع. 
وفي الأشهر الماضية، عانت ولا تزال محال المواد الغذائية نقصا في السلع بصورة هي الأخطر منذ فترات الحروب نفسها، ولهذه الأسباب هبط مؤشر "آي إتش إس ماركت" المجمع لمديري المشتريات لثالث شهر على التوالي، مع انكماشه إلى 55.3 من 59.2 نقطة في تموز (يوليو)، مسجلا أدنى مستوى منذ الشهر الثاني من العام الجاري.  وجاءت هذه النتيجة على عكس توقعات الخبراء، الذين أشاروا سابقا إلى إمكانية أن تكون خطوات الاقتصاد البريطاني باتجاه التعافي أسرع من غيرها على الساحة الأوروبية بشكل عام. 
وتستعد الحكومة البريطانية لبدء مرحلة جديدة على صعيد الدعم الذي وفرته لاقتصاد البلاد في أعقاب تفشي الوباء، بما في ذلك وقف أدوات الدعم المالي، التي تضمنت توفير قروض ميسرة أو بفائدة صفرية لكل المؤسسات الصغيرة، والمتوسطة في المملكة المتحدة.  
اقتصاد بريطانيا دخل مرحلة الانكماش مع دخول الاقتصاد العالمي فيه بالطبع، وكان الأكبر في تاريخ المملكة المتحدة منذ عام 1709 عندما دمرت موجة البرد المعروفة باسم "الصقيع العظيم"، الاقتصاد الزراعي آنذاك. وبلا شك تمكنت البلاد من أن تتقدم على صعيد التعافي حتى تجاوزت بعض الدول الأوروبية، ولكن إلى أي مدى يمكنها أن تعود مجددا إلى ما كانت عليه قبل الجائحة العالمية المدمرة؟ الجواب يتعلق بالطبع بمدى السيطرة على هذا الفيروس "كوفيد - 19" ومتحوراته، دون أن ننسى أن بريطانيا تتصدر قائمة الدول التي شهدت وفيات مرتفعة، مقارنة بغيرها من دول أوروبا، أضف إلى ذلك، التأثيرات السلبية للمواجهات السياسية بين الحكومة البريطانية والمفوضية الأوروبية بشأن تنفيذ اتفاق "بريكست"، التي بلغت حد التهديدات باللجوء إلى القضاء، بل حتى بإغلاق الحدود التي يضمنها الاتفاق. في كل الأحوال، يتمتع الاقتصاد البريطاني بمرونة معروفة، ستمكنه من خفض مستوى الضغوط عليه في مرحلة الخروج من الأزمة الاقتصادية التي خلفها الوباء، لكن ضغوط تتعلق بـ"بريكست" ستبقى حاضرة لفترة طويلة جدا، وستتسبب في صنع فراغات، وسلبيات في السلسلة الفقرية للاقتصاد البريطاني.            

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي