استشراف المستقبل
في عام 1996 اتخذت شركة سامسونج، عملاق صناعة الأجهزة الإلكترونية، قرارا استراتيجيا للتربع على عرش المنافسة العالمية والحفاظ على موقعها في الصدارة. حيث اتخذ لي كون هي رئيس الشركة في ذلك الوقت هذا القرار والمتمثل في ابتكار أجهزة سامسونج لتكون بتصاميم جذابة ومميزة. لقد توصل رئيس "سامسونج" لهذا القرار بعد استقرائه مستقبل صناعة الأجهزة الإلكترونية في القرن الـ 21 الذي سيرتكز على العنصر التصميمي والجمالي كأحد عناصر المنافسة حسب رؤيته. واستجابة لذلك الاستشراف، فقد قررت شركة سامسونج زيادة عدد مصمميها ليصل إلى 1600 لجعلهم عنصرا أساسيا في ثقافة الشركة الجديدة ودمجهم مع فرق العمل المختلفة. كما استطاعت الشركة استشراف احتياجات عملائها المستقبلية والتنبؤ بأبرز التوجهات الاقتصادية والتقنية المقبلة. وبالفعل أنتجت "سامسونج" منتجات ذات تصاميم فريدة من الأجهزة الإلكترونية كتلفزيونها المسطح وسلسلة أجهزتها الذكية.
على صعيد آخر، وفي ظل التوقع بانكماش نمو عدد السكان في كوريا الجنوبية بحلول 2030، وزيادة معدل أعمار السكان، ما سيؤثر في قابلية شراء الأجهزة الإلكترونية التي تستهوي الفئات العمرية اليافعة غالبا، فقد استجابت "سامسونج" أخيرا لهذا التغير للمحافظة على نمو أرباحها وحضورها في الأسواق العالمية. حيث استهدفت الأسواق التي تشكل فيها الأعمار الشابة نسبة كبيرة من السكان مثل دولة الهند. واستجابة لذلك، فقد أطلقت "سامسونج" حديثا جهازها Z1 منخفض التكلفة لمناسبته الفئات المستهدفة من سكان الهند في الدرجة الأولى. إن هذين المثالين يصوران أهمية استشراف المستقبل والتنبؤ بالفرص المستقبلية لتحديد الاستراتيجيات السديدة والتوجهات المحتملة للأسواق والشركات.
ويبقى التساؤل، كيف لنا أن نتعلم من المستقبل وهو لم يحدث بعد؟ وما الأدوات والعلوم التي تساعدنا على التنبؤ فيما سيحدث؟ أولا يجب ألا نخلط بين الاستشراف والتنبؤ بالمستقبل وبين ادعاء علم الغيب. فالغيب لا يعلمه إلا الله - سبحانه وتعالى. فالاستشراف بداية ليس بالأمر القطعي، لكنه أقرب إلى الاحتمالات، وتوقع حدوثها من عدمه مبني على قوة القرائن والمؤشرات، سواء الحالية أو الماضية. فاحتساب نمو عدد السكان بوتيرة معينة بناء على عدد المواليد للعشرة أعوام الماضية، مع الأخذ في الحسبان معدل الأعمار الحالي قد يقودنا لاستنتاج دقيق حول معدل نمو السكان المستقبلي.
مثال آخر كذلك عن التغير في الطقس أو الأحوال الجوية في العقدين الماضيين بالنظر إلى ازدياد الاحتباس الحراري وتأثيره البيئي والمناخي، قد يساعدنا على تصور مقارب لما سيؤول إليه الطقس في الأعوام القليلة المقبلة. عموما، فإن البيانات والمعلومات المتوافرة الماضية والحالية، وكذلك التوجهات المستقبلية سواء في التقنيات أو الاقتصاد أو حتى التغير في سلوك الناس وطريقة تفاعلهم مع المتغيرات من حولهم تقود لتصور مستقبلي قد تبنى عليه كثير من الدراسات والاستراتيجيات.
إن استشراف المستقبل في ظل ظهور عديد من التحديات العالمية والاقتصادية، لم يعد خيارا يحتمل التعاطي أو التغاضي، بل هو ضرورة ملحة للاستعداد الأمثل لأي تغيرات قد تطرأ في المستقبل لم تكن في الحسبان.
إن بناء الاستراتيجيات طويلة الأمد لن تكون ذات جدوى ولن تحقق قيمة مضافة سواء على مستوى الدول أو الشركات، دون استشراف دقيق للمستقبل وتفعيل لأدواته الصحيحة في محاولة لقراءة القادم قراءة دقيقة عبر الاستفادة من بيانات وخبرات الماضي والحاضر.