Author

النمو وحده لا يكفي

|
حقق العالم خلال العقود الماضية نموا اقتصاديا وتحسنا للظروف المعيشية لم يسبق له مثيل على مر التاريخ. وتستخدم متغيرات الناتج المحلي الإجمالي وللفرد ومعدلات نموها كمؤشرات للتعرف على حجم الاقتصادات ومستويات المعيشة وتحسنها في دول العالم، فكلما ارتفع معدل الناتج المحلي للفرد ارتقت مستويات المعيشة، وكلما زاد معدل نموه تسارعا تحسنت مستويات المعيشة. وتستهدف دول العالم قاطبة تحفيز الناتج المحلي ومعدلات نموه. ومع ذلك لا يعني ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات نموه توزعه بعدالة بين السكان، حيث قد يتركز جزء كبير من الناتج في شريحة سكانية معينة أو نطاق جغرافي محدود، ما يسيء إلى عدالة توزيع الدخل. وبهذا لا يعظم النمو وحده الرفاهية الاجتماعية، بل قد يقود إلى تراجعها إذا كبرت فجوات الدخل بين الشرائح السكانية. ويرفع تردي عدالة توزيع الدخل المخاطر المهددة للسلام الاجتماعي والرافعة للتوترات السياسية. وتشير تجارب وبيانات عدد من دول العالم خلال فترة العقود الثلاثة الممتدة بين عامي 1980 و2010، إلى فعالية النمو الاقتصادي في خفض الفقر المطلق، أما تأثيره في عدالة توزيع الدخل فكانت مختلطة، حيث نجح بعض الدول في تحسين عدالة توزيع الدخل بينما فشلت أخرى.
يواجه المختصون تحديات حقيقية في جمع بيانات الفقر وعدالة توزيع الدخل والثروة. ويحجم كثير من الناس، خصوصا فائقي الثراء، عن التصريح بثرواتهم ودخولهم ويميلون إلى خفضها تجنبا للرسوم والضرائب الحكومية أو للاستمرار في تلقي المعونات والدعم. وترتفع معدلات الإحجام عن الإدلاء بالبيانات الحقيقية في بعض الدول لأسباب متعددة، كانخفاض مستويات الوعي والتعليم أو تراجع الثقة بالسياسات العامة. عموما، فإن جمع بيانات عدالة توزيع الدخل والثروة ليس أمرا سهلا وميسرا، إضافة إلى أنه يخضع لكثير من الافتراضات ولا يتوافر بشكل دوري، ما يصعب دراسته وبناء استنتاجات حوله. ويحاول المختصون جهدهم قياس عدالة توزيع الدخل في الدول عن طريق مؤشرات متعددة من أبرزها مؤشر جيني. وتزداد عدالة توزيع الدخل بموجب هذا المؤشر مع انخفاض قيمته. وتنخفض قيمته إلى الصفر عندما يتساوى جميع السكان في الدخل. في الجانب الآخر، تنحدر عدالة الدخل إلى أدنى مستوياتها حين يتركز الدخل في شخص واحد، وعندها يصل المؤشر إلى أعلى مستوياته وهو واحد.
تشير بيانات الفقر المطلق في دول كثيرة، إلى تراجعه خلال فترة العقود الثلاثة الممتدة بين عامي 1980 و2010. وهذا أمر منطقي نظرا للتحسن الكبير في دخول دول العالم، خصوصا الدول النامية، نتيجة لتنمية الموارد البشرية والبنية الأساسية، وتطور التقنية، وتوسع التجارة العالمية. وكانت إندونيسيا من أبرز الدول في خفض نسب الفقر المطلق، حيث تراجعت نسبة الفقراء من نحو تسعة أعشار سكانها عند بداية الفترة إلى نحو الثلث عند نهايتها.
لم ينعكس تراجع الفقر المطلق على عدالة توزيع الدخل العالمي حيث انخفضت بشكل طفيف خلال الفترة. وتباينت نسب التراجع بين الدول المتقدمة وباقي العالم، حيث كان التراجع أقوى في الدول المتقدمة عموما، بينما ظلت شبه مستقرة في الدول الصاعدة، وتحسنت قليلا في الدول الأقل دخلا. أما على مستوى الدول، فقد كان التباين في تطورات عدالة الدخل خلال الفترة أكبر، حيث تراجعت بأكثر من عشر نقاط مئوية في دول مثل الصين وروسيا لتغير الأنظمة الاقتصادية. في الجانب الآخر شهدت دول السوق العتيدة أو الدول الرأسمالية مثل ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا تراجعات بأكثر من ست نقاط مئوية في عدالة توزيع الدخل خلال الفترة.
تتقارب مؤشرات عدالة توزيع الدخل بين الدول المتقدمة ككتلة واحدة والدول الصاعدة ككتلة أخرى. وسجل مؤشر جيني للمجموعتين نحو 0.47 للدول المتقدمة ونحو 0.45 للدول الصاعدة في 2010 "الثقة أقل في بيانات الدول الصاعدة". ومن الجدير بالاهتمام التأثير القوي للضرائب والدعم والتحويلات في عدالة الدخل، حيث انخفض مؤشر جيني "تحسنت عدالة الدخل" كثيرا للدول المتقدمة بعد إدخال تأثير الضرائب والتحويلات مسجلا نسبة قريبة من 0.30، بينما كانت في حدود 0.42 للدول الصاعدة، و0.44 للدول منخفضة الدخل. وهذا مؤشر قوي على تراجع العدالة الضريبية في الدول الصاعدة والأقل دخلا. وتعتمد الدول الصاعدة والأقل دخلا على الضرائب المفروضة على الاستهلاك بينما تعتمد الدول المتقدمة على ضرائب الدخل بشكل أكبر.
هناك عوامل أخرى تسهم في تحديد عدالة توزيع الدخل، من أبرزها: توزيع الثروات والتمييز والسياسات الحكومية، وتنمية الموارد البشرية والبنية الأساسية، وتطور القطاع المالي وفرص حصول الشرائح الأقل دخلا على الائتمان. وتلعب عدالة توزيع الثروة، خصوصا الأراضي، دورا بارزا في عدالة توزيع الدخل، حيث يعود جزء كبير من الناتج المحلي كإيرادات لملاك الثروات. وتمثل الثروة العقارية الجزء الأكبر من ثروات الأسر، خصوصا في الدول النامية، بينما ترتفع مساهمة الثروات المالية والصناعية والخدمية في الدول المتقدمة. وتسهم عدالة توزيع الأراضي والمساكن في تحسن عدالة الدخل والثروة. كما يسهم تمكين الشرائح السكانية الأقل دخلا من الوصول إلى الائتمان في تحسين عدالة توزيع الدخل.
إنشرها