الطاقة النظيفة طريق دول البلطيق لكسر الجمود الاقتصادي والخروج من فخ الدخل المتوسط

الطاقة النظيفة طريق دول البلطيق لكسر الجمود الاقتصادي والخروج من فخ الدخل المتوسط
دول البلطيق لديها إمكانيات هائلة في مجال الطاقة المتولدة من الرياح البحرية.
الطاقة النظيفة طريق دول البلطيق لكسر الجمود الاقتصادي والخروج من فخ الدخل المتوسط
واشنطن أكثر اهتماما بملف الطاقة في بحر البلطيق في ظل رفض "نورد ستريم2".

غالبا ما تصف الأدبيات الاقتصادية دول بحر البلطيق الثلاث ليتوانيا، لاتفيا، وإستونيا، بأنها ثلاث دول واقتصاد واحد.
الدول الثلاث شهدت نموا اقتصاديا قويا وسدا سريعا لفجوة الدخل التي تفصلها عن الاقتصادات المتقدمة، منذ استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991.
وتحولت من نظام التخطيط المركزي إلى اقتصادات السوق، فارتفعت مستويات المعيشة، وأفلحت في تحقيق درجة عالية من الاستقرار الاقتصادي الكلي، وتوجت تلك الإنجازات بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، ودخول منطقة اليورو عام 2011.
لكن قوة الاندفاع الاقتصادي والنمو الملحوظ بدأت تشهد أول مراحل التباطؤ عندما وقعت الأزمة الاقتصادية عام 2008، إلى الحد الذي يدفع الخبراء حاليا إلى اعتبار أن الدول الثلاث وقعت فيما يعرف في فخ الدخل المتوسط، حيث معدلات النمو متواضعة في أغلب الأعوام، مع عدم القدرة على تحقيق مزيد من القفزات فيما يتعلق بتحسن مستوى المعيشة.
يرجع كثير من الاقتصاديين هذا الوضع إلى عوامل هيكلية كامنة في البنية الاقتصادية لدول بحر البلطيق، مثل ضعف التعليم ومحدودية المحتوى الإنتاجي وانخفاض القدرة التصديرية، والشيخوخة المجتمعية، إلا أن ذلك لا يعد قدرا لا يمكن الفكاك منه، وإنما يعود في الأساس إلى نقص التنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة في الاقتصاد، والقيود المؤسساتية التي تعيق الاقتصاد الوطني على التحرك للأمام.
لكن ما يرصده الخبراء يشير إلى أن القواسم المشتركة بين الدول الثلاث، لا تنفي وجود تميزات اقتصادية بينها يجعل من ليتوانيا أكثر فاعلية اقتصاديا مقارنة بكل من إستونيا ولاتفيا.
في هذا السياق، تقول ترسي جيمن رئيسة وحدة التحليل الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي سابقا، "الزخم الاقتصادي كان يتباطأ في إستونيا ولاتفيا منذ النصف الثاني من عام 2019، بينما كانت لتوانيا تظهر نموا مطردا، الأسباب الكامنة وراء تباطؤ النمو في إستونيا ولاتفيا تعود إلى المشكلات الهيكلية مثل نقص العمالة وانخفاض إنتاج التصنيع ومحدودية الصادرات، وفي لاتفيا تحديدا أسهمت جهود مكافحة غسل الأموال في القطاع المصرفي في حدوث تباطؤ في النمو، وبسبب أزمة كورونا وتدابير الإغلاق انخفض الناتج المحلي في لاتفيا 1 في المائة وفي إستونيا 0.7 في المائة".
الأمر يختلف نسبيا في ليتوانيا نتيجة استقرار الإنفاق الحكومي، كما أن تراجع الصادرات كان أقل نسبيا مقارنة بالآخرين.
مع هذا يرى بعض الخبراء أن قطاع الطاقة النظيفة وتحديدا الطاقة المتولدة من الرياح البحرية يمكن أن تساعد دول البلطيق الثلاث على كسر الحلقة الراهنة من الجمود الاقتصادي، وتدفعهم إلى صفوف مصدري الطاقة النظيفة في القارة الأوروبية.
لا تبدو دول البلطيق رائدة في مجال الطاقة النظيفة حتى على المستوى الأوروبي، فالوقود الأحفوري لا يزال عنصرا أساسيا في أنظمة الطاقة لديهم. لكن الدول الثلاث بدأت في اتخاذ خطوات كبيرة لجعل أنظمة الطاقة الخاصة بها أنظف، مع هذا تظل مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح أو الطاقة الشمسية أو المائية تلبي جزءا صغيرا من احتياجاتها الإجمالية من الطاقة، إذ لبت نحو 2.6 في المائة في ليتوانيا و4.6 في المائة في لاتفيا و1.3 في المائة من إجمالي الطلب على الطاقة في إستونيا.
لكن الدلائل المتزايدة تشير إلى أن دول البلطيق لديها إمكانات هائلة في مجال الطاقة النظيفة، خاصة المتولدة من الرياح البحرية، التي يمكن أن يكون لها تأثير يؤدي إلى تغير قواعد اللعبة في أوروبا عامة وشمالها على وجه الخصوص.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور لوكا ريتشارد أستإذ أنظمة الطاقة الحديثة في جامعة مانشستر، "على الرغم من أنه لا يوجد حاليا أي دولة من دول البلطيق لديها طواحين هواء في البحار المفتوحة، إلا أن الدول الثلاث لديها خطط رياح بحرية كبيرة للمستقبل، وبحلول عام 2030 تعتزم لتوانيا تشغيل ما لا يقل عن 700 ميجا واط من مزارع الرياح البحرية، وتخطط لاتفيا وإستونيا إلى تطوير مزارع رياح مشتركة بقدرة 1000 ميجا واط في خليج ريجا، وإستونيا تحديدا سيكون لديها مزرعة رياح بحرية بقدرة 1000 ميجا واط بحلول عام 2028".
تتفق تلك التقديرات مع دراسة حديثة لشركة ويند أوروبا تعد أن بحر البلطيق أحد المراكز الأوروبية المستقبلية للانتقال إلى الطاقة النظيفة، وتشير الدراسة إلى أن ليتوانيا يمكن أن تصل إلى 3600 ميجا واط ولاتفيا 2900 ميجا واط وإستونيا 1500 ميجا واط من الطاقة المولدة من مزارع الرياح البحرية بحلول عام 2050، وإذا تحقق ذلك فإنه يمكنهم تصدير نحو نصف ما يولدونه من طاقة باستخدام توربينات الرياح البحرية إلى الدول المجاورة.
لكن تلك النظرة المتفائلة تصدم من وجهة نظر الخبراء بعدد من العقبات أبرزها انخفاض القدرة الاستثمارية لدى دول البلطيق الثلاث. ولا شك أن الأضرار الناجمة عن وباء كورونا في دول الاتحاد الأوروبي التي يتوقع أن تتواصل تداعياتها لبعض الوقت زادت من الطين بلة.
بدورها، تؤكد لـ"الاقتصادية" روزي هيدي الخبيرة الاستثمارية، أنه على الرغم مما يحمله قطاع الطاقة النظيفة خاصة الطاقة المتولدة من توربينات الرياح البحرية من إمكانات واعدة في دول بحر البلطيق، إلا أن ضعف القدرات الحكومية في مجال الاستثمار الحكومي، وكذلك عدم القدرة على الفكاك من دائرة الدول متوسطة الدخل، ومحدودية الإمكانات الاستثمارية للقطاع الخاص، فيما يتعلق بالمشاريع الاستثمارية العملاقة، يضاف إلى ذلك الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها منطقة اليورو في الوقت الراهن، يجعل من الصعب على وجه اليقين معرفة مدى قدرة تلك الدول على المضي قدما في مشاريع التحول إلى الطاقة النظيفة، كما أن هناك جوانب تفصيلية أخرى لا تزال محل تساؤل.
وحول تلك الجوانب التفصيلية تشير إلى أنه لا يعرف بشكل قاطع مقدار الكهرباء التي يمكن لدول بحر البلطيق تصديرها، فمستقبل خال من الكربون يعني ضرورة خضوع الدول الثلاث والدول المجاورة لتغييرات هائلة بحلول منتصف القرن، ولن يتعين عليهم جعل استخدام الطاقة أكثر كفاءة فقط، لكن سيتعين عليهم أيضا إزالة الكربون وكهربة أجزاء كبيرة من اقتصاداتهم.
من المؤكد أن عملية توليد الكهرباء عن طريق مزارع الرياح في دول البلطيق مهمة ضخمة، تتطلب إعادة تشكيل أنظمة الطاقة في تلك الدول، وهذا أمر غير يسير تقنيا ومكلف اقتصاديا، فإنشاء مزارع الرياح وتجهيز البنية التحتية يكلف عشرات المليارات ويستغرق عدة عقود.
مع هذا يعتقد بعض الاقتصاديين في الاتحاد الأوروبي أن عملية التحول تلك، وعلى الرغم مما قد يعترضها من صعوبات مالية، هي الوسيلة الوحيدة لإحداث نقلة نوعية حقيقية في اقتصادات دول بحر البلطيق، بما يمكنها من كسر الدائرة المفرغة التي تعانيها منذ أعوام ببقائها ضمن دول الدخل المتوسط.
ويراهن البعض في الوقت الراهن على أن مؤسسات الطاقة الأمريكية والهيئات الاستثمارية قد توجه أنظارها في المرحلة المقبلة إلى هذا الملف، ليس فقط نتيجة تمتع المنطقة بإمكانات هائلة لتوفير طاقة الرياح، خاصة أن بحر البلطيق يعد ضحلا نسبيا ويتمتع بسرعة رياح مثالية كما يمكن بناء التوربينات بالقرب من الشاطئ ما يجعلها أقل تكلفة، وعند مقارنته ببحر الشمال مثلا الذي يتسم بقسوة أحوال الطقس فيه، فإن الأحوال الجوية في بحر البلطيق أكثر استقرارا.
ليس تلك فقط العوامل التي تدفع واشنطن إلى النظر إلى قدرات الطاقة في دول بحر البلطيق، لكن الخبير في شؤون الطاقة هاردي جامبون، يقول لـ"الاقتصادية"، إن "الرفض الأمريكي لمشروع خط أنابيب نورد ستريم 2 المثير للجدل الذي يهدف إلى جلب الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، يجعل واشنطن أكثر اهتماما بملف الطاقة في دول بحر البلطيق التي لديها ما تقدمه أكثر من خطوط الأنابيب، وربما تأخر الجانب الأمريكي بعض الشيء في الفترة الماضية، لكن في ظل إدارة بايدن التي لا تظهر أي ود للجانب الروسي، ستختلف الأوضاع".
ويضيف، "هناك جانبان يتوقع حدوثهما خلال الفترة المقبلة، فبعض شبكات الطاقة في الدول الثلاث لا تزال مرتبطة بنظيراتها في روسيا وبيلاروسيا، وهي من بقايا التاريخ المشترك من أيام الاتحاد السوفيتي، وسيتم التسريع بفك هذا الارتباط ودمج الدول الثلاث في خريطة طريق للشبكة الكهربائية التي تربط المنطقة بباقي دول القارة الأوروبية بحلول عام 2025".
ويؤكد أن العامل الثاني يرتبط بالبحث عن حلول مالية للتغلب على المصاعب الاستثمارية، ومن الواضح أن الجهود المبذولة حاليا تسير في اتجاه تعزيز التعاون الإقليمي بين الدول الثلاث، إضافة إلى بولندا وألمانيا اللتين تطلان أيضا على بحر البلطيق، للتغلب على العقبات الاستثمارية والمضي قدما لتعزيز مشاريع طاقة الرياح في المنطقة.

الأكثر قراءة