دوائر التوظيف والبحث عن فرصة عمل

عنصر العمل هو أحد أهم عناصر إنتاج ثروة الأمم، ولقد راهنت الدول المتقدمة على العمال المهرة لعقود طويلة. ولتحديد المهارة نشأت الجامعات والمنظمات المهنية، وأصبح الاعتراف بالمهارة يتطلب خبرات وشهادات مهنية مختلفة، لكن عصر الآلة والتقنية الذي نشهده اليوم قلب الأمور تماما، وأصبح في العالم من يمتلك خبرات مذهلة وقادرين على تقديم ابتكارات تقنية عالية، ومع ذلك فإنهم يفتقدون الاعتراف المهني لما يمتلكونه من مهارات.
هذه إشكالية يعيشها الشباب اليوم في كل مناطق العالم، فعديد منهم لديه القدرة المذهلة على التعلم الذاتي من المصادر المفتوحة، وزاد تفشي فيروس كورونا من اتجاه مؤسسات التعليم والتدريب المختلفة لتقديم التعليم عن بعد، ما زاد المحتوى العلمي على شبكة الانترنت بشكل كبير، وهو ما منح الشباب فرص الوصول إلى المعرفة أكثر من ذي قبل، ومع ذلك، فإن قدرتهم على الوصول إلى سوق العمل بقيت دون تحسن كبير على الأقل في الدول النامية.
المسألة ليست كما تبدو، فالقطاع الخاص اليوم يبحث عن القدرة على إنتاج القيمة بغض النظر عن الشهادات العلمية، لكن آليات التوظيف وبواباته هي التي تحدد من له حق المرور لسوق العمل ومن سيبقي في الخارج، وهذا يتطلب من الشباب بمختلف إمكاناتهم، فهم الآليات الحقيقية للوصول المهني وعبور بوابات التوظيف، ومن المؤكد أن كثيرا من الشباب قد انشغل لفترة طويلة في جمع شهادات التدريب وحضور المؤتمرات، وجاهد نفسه جدا في بناء سيرة ذاتية بلغات متعددة أحيانا، ومع ذلك، فإن الاتصال المنشود لم يأت بعد. والسبب هو أن الشاب أو الشابة لم يمرا بالبوابات المهنية، كما أراها وفقا لنموذج الدوائر المتداخلة، فكل مهنة أو قطاع مؤلف من مجموعة مجتمعات مهنية أو مجتمعات توظيف، كل مجتمع مهني من هذه المجتمعات يسيطر على بوابة الدخول التي من جانبه، ولن يتمكن أي شاب من الدخول ما لم يقم أحد مكونات هذا المجتمع بفتح البوابة له من الداخل. هذه البوابات إما أن تكون هشة وإما صلبة، وذلك بحسب هشاشة أو صلابة المجتمعات المهنية في الداخل.
بعض المهن استطاعت أن تبني دوائر مهنية معقدة ذات بنية مؤسسية تراقب البوابات بشكل دقيق، وفي هذه البنية المؤسسية هناك مجموعة من الأشخاص الذين يعملون "كسدنة" لهذه المهنة، ولهم هيمنة كبيرة على اتجاهاتها، فمن خلالهم يتم اقتراح الأنظمة والإجراءات، وهم من يصنع الثقافة المهنية المهيمنة والدرع الصلبة ضد الاختراق المهني، وضد ذوبان المهنة في غيرها، ويجاهدون في سبيل وضع حواجز الدخول المهني، من خلال استصناع الشهادات والاختبارات، ذلك أن عوائدهم مرتبطة تماما بحجم الندرة التي يصنعونها في المهنة، وللدخول يجب الحصول على موافقة صريحة من هذه المجموعة المهيمنة والقبول بشروطهم. ولهذا، على الشباب الذين يريدون هذه المهن أن يحصلوا على شهادات أكاديمية مختصة في هذا النوع من المهن، وعدم إضاعة وقتهم في التدريب والسير الذاتية، وأن يذهبوا فورا لهذه المؤسسات المهيمنة ويحصلوا من خلالها على وثيقة الدخول للمهنة.
هناك مهن أخرى أقل صلابة، فلا يوجد لها طابع مؤسسي رسمي، وهذه المهن كثيرة، والحصول على اعتراف والدخول للمهنة يتطلب قبولا من مجتمع مهني داخل الدوائر الضمنية في هذه المهنة، والدخول هنا ليس من خلال إثبات المعرفة العلمية وحدها، ولا السير الذاتية، أو عدد الدورات التدريبية، بل هي بالعلاقات الشخصية، وهنا أحذر الشباب الباحث عن عمل في هذه المهن من مغبة الاندفاع خلف الدورات التدريبية التي تعقد عن بعد، وشهادات حضور المؤتمرات، فلن تفتح بوابات التوظيف أبدا، بل ركز على معرفة وتحديد مجتمع مهني معين، سواء في قطاع أو مؤسسة معينة، ومن ثم الفوز باعتراف منهم. للفوز بالاعتراف، فإن على طالب العمل تحديد المؤسسة بدقة ومعرفة الأشخاص فيها بشكل مباشر. بعض المواقع الجيدة، مثل "لنكدإن" و"تويتر" قد تسهل عملية الوصول، وهناك ادعاءات أن 70 في المائة من مديري الموارد البشرية يستخدمون هذه المواقع، لكن بعض الشباب يتعامل مع هذه المواقع دون فهم للمعاني التي ذكرتها، فلا بد من الحضور والتفاعل مع المؤسسات والأشخاص المقصودين بما يحقق معرفة أكثر قربا، ومن ثم الفوز بالاعتراف، كما أن حضور المؤتمرات المهنية أو اللقاءات و المشاركة فيها، قد يقود إلى التعارف المهني المطلوب.
لقد أثبتت دراسات عدة أن الترشيح المباشر هو أسرع وسيلة للتوظيف، لكن مع ذلك، فإن آليات إرشاد الشباب لهذه الطريقة تبدو معدومة، ولا شك أن العلاقات الشخصية التي تمكن أحد الآباء من بنائها قد تمكن الأبناء من الفوز بوظائف، لكن أيضا الزملاء الذين فازوا بالدخول للوظائف قادرون على منح فرص للزملاء الآخرين، لهذا يجب على الشباب تتبع نجاحات زملائهم والبقاء على اتصال، وهذا ناجح بشكل لافت في التوظيف النسائي خصوصا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي