تقارير و تحليلات

اقتصاد هولندا يتجه إلى مستويات ما قبل الجائحة .. الشيخوخة معضلة النمو

اقتصاد هولندا يتجه إلى مستويات ما قبل الجائحة .. الشيخوخة معضلة النمو

هناك تفاؤل بشأن الأوضاع الاقتصادية في هولندا خلال هذا العام والعام المقبل.

على الرغم من أن الاقتصاد الهولندي انكمش العام الماضي 3.8 في المائة نتيجة وباء كورونا، إلا أن الشعب الهولندي لا يزال يعرب عن افتخاره بأنه رغم عدد سكان البلاد الزائد قليلا على 17 مليون نسمة، لكنهم يحتلون المرتبة الـ17 على المستوى الدولي من حيث الناتج المحلي الإجمالي وفقا لبيانات البنك الدولي.
وتتجلى أحد مظاهر قوة الاقتصاد الهولندي في قدرته على تصدير ما قيمته 675 مليار دولار من السلع العام الماضي، بما يقارب 37 ألف دولار لكل مقيم.
وإذا كانت سياسات الإغلاق الصارمة التي أعلنتها الحكومة الهولندية تسببت في استمرار الانكماش الاقتصادي في الربع الأول من العام الجاري، فإن كثيرا من الخبراء يرجحون أن بمقدور الاقتصاد الهولندي العودة لمستوى النشاط الاقتصادي السابق لأزمة كورونا بحلول نهاية هذا العام، وأن يحقق معدل نمو قد يبلغ 2.1 في المائة، ليقفز إلى 3.7 في المائة في عام 2022، وسط توقعات بعدم ارتفاع معدلات البطالة.
وفي الأغلب سيتزامن الانتعاش الاقتصادي في هولندا مع نظيره الألماني، لكنه سيكون أبكر من فرنسا، إيطاليا، المملكة المتحدة، وإسبانيا، ما يكشف عن مرونة كبيرة يتمتع بها، مقارنة بنظرائه الأوروبيين.
الباحث الاقتصادي صامويل جوناثان يرى أن نجاح عملية التطعيم في هولندا تلعب دورا مهما في سرعة عودة الاقتصاد إلى ما كان عليه قبل تفشي الوباء، لكنه يشير إلى أن العامل الجوهري في سرعة شفاء الاقتصاد الهولندي مقارنة بغيره من الاقتصادات الأوروبية يعود لكون الاستهلاك الأسري يمثل نحو نصف الإنفاق الاقتصادي في البلاد، ما يجعله عامل دفع لتسريع وتيرة الانتعاش الاقتصادي المتوقع.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إنه "بسبب الإغلاق الصارم كان إنفاق المستهلكين أقل بشكل ملحوظ في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، لكن المتوقع الآن أن ينتعش إنفاق الأسر بقوة في بقية هذا العام، خاصة أن البيانات الحكومية المتاحة تشير إلى ارتفاع مدخرات الأسر في عام 2020 بنحو 42 مليار يورو، ما يعطي دفعة إضافية للإنفاق".
لكن هذا التفاؤل بشأن الأوضاع الاقتصادية في هولندا خلال هذا العام والعام المقبل، لا تنفي حقيقة وجود تحديات جوهرية تواجه مستقبل الاقتصاد الهولندي وقدرته على مواصلة النمو طويل الأمد.
الدكتورة لورين لورينج الاستشارية في الجمعية البريطانية للدراسات السكانية تعلق لـ"الاقتصادية" قائلة، "أشار مكتب التخطيط المركزي الهولندي في دراسات سابقة إلى أن شيخوخة السكان في هولندا ستؤدي إلى انخفاض متوسط نمو الاقتصاد الهولندي إلى 1.1 في المائة بين عامي 2022 و2025، وخلال تلك الفترة سينخفض عدد السكان الذين تراوح أعمارهم بين 15 و75 عاما لأول مرة، ما يعني دخول عدد أقل من البشر إلى سوق العمل، ما يضع النمو الاقتصادي تحت ضغط، كما ستتوقف القوة الشرائية عن الزيادة في تلك الفترة".
وتضيف "تلك التغيرات السكانية سيكون لها انعكاسات على القطاعات الاقتصادية المختلفة بأشكال متعددة، فسيشهد قطاع الرعاية الصحية طلبا قويا على الموظفين، وسيضغط ذلك على نمو التوظيف في القطاعات الأخرى، ومن المتوقع أن تنمو فرص العمل في قطاع الرعاية الصحية بمعدل 2.1 في المائة بين عامي 2022 و2025".
وظاهرة الشيخوخة السكانية في هولندا سيكون لها تبعات أكبر على الإنفاق الحكومي على مجال الرعاية الصحية، وأيضا ستوجد طلب أكبر على المعاشات التقاعدية، ويدفع ذلك بالخبراء إلى المطالبة بضرورة تقليص حوافز التقاعد المبكر، مع اتخاذ مزيد من التدابير الصرامة لتطبيق التأمين ضد العجز، حيث يستخدم العجز وافتقاد القدرة على العمل في كثير من الحالات كوسيلة للتقاعد المبكر.
وتشير الإحصاءات الهولندية إلى أن 20 في المائة من السكان الذين تراوح أعمارهم بين 55 و64 يستخدمون التأمين ضد العجز وسيلة لطلب التقاعد المبكر، ما يخفض من قوة العمل المتاحة في الأسواق.
وفي الواقع فإن وباء كورونا وما يشير إليه الأطباء، بأنه أكثر فتكا بكبار السن جعل من قضية الشيخوخة السكانية في هولندا قضية ملحة على عديد من الأصعدة. وقد أعد البرلمان الهولندي العام الماضي دراسة بهذا الشأن في مسعى لإعطاء صورة أكثر تفصيلا عن الهيكل السكاني مستقبلا.
وكشفت الدراسة، أن التوقعات الخاصة بإجمالي عدد السكان تراوح من 17 مليون نسمة أي أقل من عدد السكان الحالي إلى 22 مليون نسمة خلال الـ30 عاما المقبلة، وأن ما بين 30 إلى 40 في المائة من السكان سيكون لديهم خلفية مهاجرة بحلول عام 2050.
ولتفادي النتائج السلبية المتوقعة من شيخوخة السكان على الأداء الاقتصادي، خاصة أن ديناميكيات السكان ترتبط ارتباطا وثيقا بالعمليات طويلة الأمد للتغيير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، أصدرت الحكومة الهولندية في أواخر عام 2019 استراتيجيتها بشأن خططها لتعزيز العمل بالذكاء الاصطناعي لتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية لهولندا مستقبلا.
وتعتمد تلك الاستراتيجية على الفرص المجتمعية والاقتصادية من خلال سلسلة من السياسات التي تشجع على استخدام وتطوير الذكاء الاصطناعي في القطاعين الخاص والعام، وتعزيز استخدامه لمواجهة التحديات المجتمعية.
وتلك الاستراتيجية تحتوي على قائمة واسعة من المبادرات التي تهدف إلى تعزيز الذكاء الاصطناعي في الهيكل الاقتصادي من خلال السياسات المتعلقة بالتعليم والبحث والتطورات الابتكارية.
مع هذا فإن تلك الاستراتيجية لا تعد من وجهة نظر بعض الخبراء كافية بشكل تام لمواصلة الاقتصاد الهولندي الحفاظ على معدلات النمو مرتفعة بشكل دائم ومستمر.
من هنا يدعو بعض الخبراء الاقتصاديين إلى ضرورة أن يحقق الاقتصاد الهولندي مزيدا من التكامل مع الاقتصادات المتشابهة في المنظومة الاقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي للتغلب على التحديات الناجمة عن تنامي الشيخوخة السكانية.
من جهتها، تقول لـ"الاقتصادية" هولي بيكت الباحثة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، "لا يزال الاقتصاد الهولندي يعتمد بشكل كبير في الحفاظ على معدلات نموه على الصادرات التي يستوعب الاتحاد الأوروبي الجزء الأكبر منها، وعلى الرغم من أن معدلات النمو في دول الاتحاد وطبيعة هياكلها الاقتصادية متباينة، فإنه يمكن لهولندا أن تشكل مع عدد من الاقتصادات الأوروبية المشابهة مثل ألمانيا، فرنسا، وبلجيكا، نواه لمجموعة داخل الاتحاد الأوروبي تضمن بمقتضاها مزيدا من التنسيق الاقتصادي، ومن ثم التغلب على المشكلات الناجمة عن الشيخوخة السكانية، عبر تقاسم أعباء النمو الاقتصادي بين دول المجموعة بتوزيع النمو القطاعي بين دولها".
وتؤكد أن إيجاد تناغم بين تكثيف استخدام الذكاء الاصطناعي في مفاصل الاقتصاد الهولندي، مع مزيد من الاندماج الاقتصادي بين الاقتصادات المتماثل هياكلها في دول الاتحاد، إضافة إلى تبني سياسات هجرة أكثر مرونة، يوجد للاقتصاد الهولندي أرضية صلبة قادرة على تعويض الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الشيخوخة السكانية التي تعانيها البلاد.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات