Author

كن حذرا فالتنبؤ الاقتصادي لم يعد ممكنا حتى

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
د. محمد آل عباس
*متخصص في المراجعة الداخلية
[email protected]
لا يمكن فصل الاقتصاد عن حركة التفكير العلمي والفلسفة عموما، فالاقتصاد بشكله الذي يمارسه الناس في حياتهم اليومية قد كان كذلك منذ الأزل، ونشأت الأسواق في كل الحضارات ومن حولها نشأت المجتمعات وعلى جنباتها ظهرت المدن والعواصم. وفي كل حضارة ومجتمع ظهرت القوانين والتعاليم والأعراف من أجل تسهيل التجارة وتبادل السلع والمنتجات، ولقد كان إيلاف قريش أحد تلك النماذج الاقتصادية الشهيرة الذي يسمى اليوم المعاهدات التجارية، فلتسهيل التجارة وتأمين الطرق عقدت قريش مع قبائل العرب والروم والحبشة وفارس اتفاقيات أمنية وتجارية، امتدت لقرون، لهذا فإن الاقتصاد كان موجودا مع البشر، لكنه لم يكن له مفاهيم وقواعد وتفسيرات فلسفية إلا بعد أن ظهرت فلسفة نيوتن الحتمية التي سهلت صياغة قوانين تفسر حركة الأجسام من حولنا، ونفهم من خلالها لماذا يحدث بهذه الطريقة، وتحسنت لدينا طرق التنبؤ من خلال الحتمية، فما حصل في الماضي سيحصل حتما في المستقبل.
هذه الحتمية انتقلت مع آدم سميث لتفسير سلوك الناس في الأسواق والصناعة، فالحتمية هي التي ترفض التصرفات، فالأسعار أصبحت نتيجة العرض والطلب، والعرض والطلب نتيجة المنافسة، ولأن الأمر حتمي والطبيعة تأخذ مجراها، فإن أي تدخل منا لتعديل حركة العرض والطلب كي نحقق نتائج مخططا لها هو في نظر الحتمية أمر بالغ الخطورة، ذلك أننا نتلاعب بنواميس الكون وسننه الخالدة، بل يجب أن يكون دور الحكومات هو ضمان عدم المساس بهذه السنن والقواعد الحاكمة للعلاقات الحتمية في طبيعتها. لهذا تتمحور أدوار الحكومات في المراقبة ضمن عمل الطبيعة، ذلك أن التدخل من شأنه إحداث تغييرات لا يمكن التنبؤ بنتائجها، وبذلك نعرض الحياة الإنسانية للخطر. لقد مضى العلم لقرون من أجل تتبع الظواهر وتفسيرها، والنجاح يتحقق عندما نستطيع صياغة العلاقات بين الأشياء من حولنا في صيغ رياضية تمثل الحتمية المطلقة في أشد صورها.
لكن هذا التصور واجه تحديا خطيرا عندما تغيرت صورة العالم مع النسبية، فالعلاقات الحتمية بين الأشياء أصبحت نسبية، بمعنى أنها علاقة صحيحة بنسبة معينة، وليس بشكل مطلق أو حتمي، لكن الأخطر في التغيرات التي أصابت العلم هي الغلو في النسبية، لدرجة أنها تحولت إلى عقيدة، وأتت تصورات العالم الفيزيائي شرودنجر بشأن معرفة الأشياء من حولنا مقلقة، فالأشياء تكون موجودة إذا راقبناها فقط، أما إذا لم نراقبها، فإنها تكون مجرد جمل كثيرة من الاحتمالات. هكذا تزعزع العلم وتزعزعت صورة العالم بشكل خطير، وانتقلت هذه الحمى إلى علم الاقتصاد وعلم الاجتماع، فالنسبية أصبحت عقيدة، وكل شيء يمكن أن يكون صحيحا بدرجة ما، وهذه الدرجة بحجم قدرتنا على المراقبة، وأدواتنا التي نراقب بها أيضا، وإذا كانت الحتمية قد تصورت أن مراقبتنا لا تؤثر في العالم من حولنا، فإن النسبية ترى العالم يتبدل كلما راقبناه، فالنظرية الرياضية التي تتنبأ بالأحداث الاقتصادية مثلا، لم تعد صحيحة حتما، بل احتمالية، النتيجة اليوم ليست بسبب ما حدث في الماضي، بل نتيجة المراقبة الآنية للأحداث الراهنة. فالقوائم المالية وما تقدمه من معلومات تاريخية ليست دليلا على قدرة الشركة على الاستمرار أو دفع تدفقات نقدية، بل مراقبة حالة الشركة هي التي تتسبب في التدفقات النقدية أو في فشل الشركة، وحركة السهم ليست رهينة فهمك لسلسلة تاريخية من الأسعار، بل هي رهينة مراقبتك اليوم، فالنتائج التي نشاهدها في كل نواحي الحياة هي بسبب تلك المراقبة، هنا نجد أنفسنا أمام تحديات ضخمة، فإذا كان الاقتصاد وحركة الأسعار والأصول تأتي نتيجة مراقبتنا لها، فإننا قد نتصرف بشكل مختلف فيما لو لم نراقبها. وفي وضع مثل هذا، فكيف يمكن أن نتخذ قراراتنا الاقتصادية؟
من كان يتوقع؟ هذه العبارة الأكثر تداولا اليوم في كل مكان ومجلس، ذلك أن حدوث الظواهر الاقتصادية لم يعد مرهونا بما كنا نتوقعه، بل أصبحت مرهونة بشكل أساسي بما نشاهده، ونتخذ قراراتنا بناء على مشاهدتنا، وتتغير المواقف، وإذا كنا نريد حماية مدخراتنا، فيجب ألا تغفل أعيينا عن المراقبة، لكن هذا الوضع شبه مستحيل، ولهذا فإن دخول التقنية في المراقبة، بل اتخاذ القرار في غيابنا، يجعل العالم قبل ما ننام في الليل غير العالم الذي نصحو عليه في اليوم التالي. وهذا وضع يجعلنا تحت ضغط هائل جدا، وطريقتنا في اتخاذ القرارات التي انتقلت لنا من الأجداد ومع الأجيال لم تعد مناسبة ولا صحيحة، فدخول الآلة في المراقبة واتخاذ القرار يشوه العالم الذي نعرفه، وإذا كان من المعقول تصور أننا بمراقبتنا للعالم نغير من شكله في الوقت نفسه، فإن مراقبة الآلة للعالم ستغيره بطريقة قد لا نفهمها نحن البشر، ولهذا فإن قرارات الأمس لن تكون صحيحة في اليوم التالي. وهذا يعني أن علينا اليوم توخي الحذر الشديد في قراراتنا التي لها آثار طويلة المدى في مرونتنا المالية والاجتماعية وقدرتنا على البقاء، بل التنقل، وأن نكون أكثر تحوطا للتقلبات الاقتصادية الهائلة وغير المتوقعة في المستقبل، ولن يمكن التنبؤ.
إنشرها