تقارير و تحليلات

الزراعة في أوروبا .. انقسام حول الدعم ينبئ بهزات في العرض والطلب

الزراعة في أوروبا .. انقسام حول الدعم  ينبئ بهزات في العرض والطلب

خلال العام الماضي واجه القطاع الزراعي في دول الاتحاد الأوروبي تحديات غير مسبوقة بسبب أزمة كورونا وعواقبها، بعض تلك التحديات ارتبط بالقضايا اللوجستية والبعض الآخر ارتبط بنقص القوى العاملة وعدم قدرتها على التنقل بين دول القارة، خاصة في موسم الحصاد، نتيجة سياسات الإغلاق، بينما كان الأكثر مدعاة للقلق التغييرات الجذرية في الطلب.
وقد بذل الاتحاد الأوروبي بالفعل جهودا حثيثة لدفع القطاع إلى التكيف مع التحديات التي تواجهه، لكن ما لحق بالقطاع من مصاعب خلال عام الجائحة فتح الباب على مصراعيه لمناقشات أوروبية جادة وحادة في الوقت ذاته حول مستقبل الزراعة الأوروبية، وطبيعة السيناريوهات المتوقعة لمستقبل القطاع الزراعي والعاملين فيه من الآن وحتى نهاية العقد المقبل.
جزء كبير من تلك المناقشات ارتبط بقضايا مصيرية تتعلق باستقلالية أوروبا في المجال الغذائي، ومدى ارتهانها في غذائها لقوى خارج حدودها، خاصة بعد أن كشف تفشي وباء كورونا المشكلات المحيطة بسلاسل الإمداد العالمي، وصعوبات الشحن الدولي في أوقات الأزمات.
والأهم أن تباين وجهات النظر بين دول الاتحاد حول أفضل السبل لدعم هذا القطاع عكس خلافا أكبر وأوسع نطاقا حول مصير الاتحاد ذاته. فدول الشمال الأوروبي، التي ترى أن مصير أوروبا يجب أن يتحدد وفقا لقطاع الخدمات والقطاع الصناعي خاصة التكنولوجيا، تعتقد أن الإفراط في دعم القطاع الزراعي ربما يعوق قدرة أوروبا على المنافسة دوليا في قطاعات أخرى، بينما تطالب دول الجنوب وشرق أوروبا وهي دول زراعية في الأساس بمواصلة دعم هذا القطاع أيا كانت التكلفة.
على أي حال فإن السيناريوهات المختلفة التي يضعها الأوروبيون بشأن توقعاتهم لتعافي القطاع بعد جائحة كورونا يمكن تلخيصها في سيناريوهين.
يقول الدكتور كريس وارد وارث أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة لندن لـ"الاقتصادية"، "إنه سواء تعافى الاقتصاد الأوروبي ببطء بعد الجائحة أو كان التعافي سريعا، فإنه ستنجم عن كلا السيناريوهين هزات في العرض والطلب، ستسفر عن انخفاض أسعار اللحوم والحبوب، في حين إن أسعار الزبد والجبن والدواجن ستتأثر بدرجة أقل".
ونظرا إلى أن المرحلة المقبلة - أيا كان شكل التعافي الاقتصادي - ستشهد حالة من عدم اليقين، فإن المؤكد أن لوباء كورونا عواقب طويلة الأمد على الأسواق الزراعية الأوروبية. وتوقع الدكتور كريس انخفاض المساحة الزراعية الإجمالية في الاتحاد الأوروبي بشكل طفيف، على النقيض من ذلك فإن استخدام الأراضي للمراعي والأعلاف من المتوقع أن ينمو، أما إجمالي إنتاج الحبوب في الاتحاد الأوروبي فرغم تقلص المساحة المزروعة فإن زيادة الغلة ستؤدي إلى استقرار في إجمالي الإنتاج عند حدود 277 مليون طن.
ويضيف "أما بالنسبة إلى اللحوم، فإن تفشي الأمراض في عديد من الحيوانات وزيادة الوعي العالمي بالمخاطر الناجمة عن الاستهلاك المفرط للحوم سيؤديان إلى انخفاض استهلاكها في دول الاتحاد بمقدار 1.1 كيلو جرام "للفرد"، وسيصل الاستهلاك إلى 67.6 كيلو جرام سنويا، بحلول عام 2030".
يعتقد أغلب الخبراء الزراعيين في أوروبا أن القيمة الإجمالية للإنتاج المحصولي والحيواني من الآن حتى عام 2030 سترتفع بنسبة 21 في المائة و9 في المائة على التوالي، وستصل قيمة الإنتاج الزراعي في عام 2030 إلى 440 مليار دولار، ويرجع ذلك إلى زيادة الأسعار والكمية المنتجة.
لكن كيف سيكون تأثير ذلك في القوى العاملة في القطاع الزراعي الأوروبي؟
تعتقد الدكتورة جان تلكين أستاذة الاقتصاد الأوروبي في جامعة كامبريدج والاستشارية في المفوضية الأوروبية أن القوى العاملة الزراعية في الاتحاد ستشهد ديناميكية مماثلة للتطور.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "سيتباطأ الانخفاض الراهن في حجم القوى العاملة الزراعية الأوروبية، وبحلول عام 2030 ستزيد القوى العاملة الزراعية الأوروبية من نحو 6.5 مليون مزارع حاليا إلى 7.9 مليون عامل في القطاع الزراعي".
وتضيف "سيتم تعزيز أداء القوى العاملة الزراعية في أوروبا بمزيد من الميكنة والمعدات وتحسين نظم الإدارة كما سنشهد استخداما أكثر كثافة للتكنولوجيا الرقمية في القطاع الزراعي، وسيزداد الدخل السنوي لكل عامل بنسبة 2.1 في المائة".
ويراهن الأوروبيون على أن أغلب حلول مشكلة القطاع الزراعي لديهم تكمن في ضخ مزيد من الاستثمارات في قطاع الابتكار والتطوير، وفي هذا السياق تم تخصيص مبلغ عشرة مليارات يورو لهذا الشأن على أمل أن يكون المستفيد الأول المزارعين والمجتمعات الريفية.
ويأمل المسؤولون الأوروبيون أن تساعد الأموال المرصودة لتعزيز الابتكارات في القطاع الزراعي على تحقيق أهداف الاتحاد الأوروبي والتزاماته الدولية بخفض إجمالي الانبعاثات الغازية بنسبة 40 في المائة على الأقل مقارنة بعام 1990 بحلول عام 2030.
القطاع الزراعي في دول الاتحاد مسؤول عن نحو 10 في المائة من الانبعاثات الكربونية، إلا أن الاعتقاد السائد حاليا أن انبعاثات الغازات الدفيئة سيتراجع بشكل طفيف في القطاع الزراعي حتى عام 2030، ما يعني أن على الاتحاد الأوروبي إيجاد وسائل أخرى لإحداث توازن بين زيادة الإنتاج الزراعي والحيواني لمواكبة الزيادة السكانية وفي الوقت ذاته تحقيق تعهداته الدولية في مجال الحفاظ على المناخ، وهو ما يبدو معادلة صعبة التحقيق بالنسبة إلى الأوروبيين حتى الآن على الأقل.
ورغم الزيادة المتوقعة لدخل المزارعين الأوروبيين من الآن حتى نهاية العقد، إلا أن وضعهم المالي لا يزال نقطة خلاف رئيسة داخل الاتحاد، فما يعرف بالسياسة الزراعية المشتركة هو أكبر بند في ميزانية الاتحاد الأوروبي، ويقدر بـ60 مليار يور سنويا، وتدعم السياسة الزراعية المشتركة دخل المزارعين وتضمن توفير نوعية جيدة من الغذاء لسكان الاتحاد، وتحمي التنوع البيولوجي، وتعالج تغير المناخ، إلا أن هناك عديدا من الشكوك في نجاح تلك السياسة في تحقيق أهدافها.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، إل. آر. ستيفن نائب المدير التنفيذي في اتحاد المزارعين البريطانيين وأحد أبرز المدافعين عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، "ما لا يقل عن 24 مليار يورو تذهب سنويا لدعم الدخل في أغنى المناطق الزراعية في الاتحاد الأوروبي التي يوجد فيها أقل عدد من الوظائف الزراعية، وفي الوقت ذاته فإن أفقر المناطق التي يوجد فيها معظم الوظائف الزراعية تترك بدون دعم حقيقي، فهذا النمط من الإنفاق يؤدي إلى عدم المساواة في الدخل بين المزارعين، حيث إن الدعم في الاتحاد يعتمد ببساطة على المساحة التي يديرها المزارع وليس على الاحتياجات، فكلما كبرت المزرعة زاد دعم الدخل الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي لأصحابها، وطبعا المزارع كبيرة الحجم هي ملك للأثرياء الذين في أغلب الأحيان في غير حاجة إلى الدعم".
ويفسر ذلك النزاع الراهن بين الدول الأعضاء في الاتحاد بشأن تفاصيل خطة العمل المشترك، وبينما تطلب الدول الزراعية الفقيرة في الاتحاد أن يرتبط دعم الدخل باحتياجات المزارعين، فإن الدول الأوروبية الأكثر تطورا في المجال الزراعي مثل هولندا وألمانيا وفرنسا لا تحبذ ذلك المعيار.
وتشير بيانات الاتحاد الأوروبي إلى أن 1.6 مليون مزارع فقط تلقوا 85 في المائة من الإعانات الزراعية التي يقدمها الاتحاد الأوروبي، وأن 25 في المائة من جميع مزارع الاتحاد تتلقى 1.3 في المائة فقط من الأموال المتاحة.
يأتي ذلك في وقت ارتفعت فيه الأسعار العالمية للسلع الغذائية في آذار (مارس) الماضي، للشهر العاشر على التوالي، مع تصدّر أسعار الزيوت النباتية ومنتجات الألبان هذا الارتفاع بحسب ما أفادت به منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو" أمس الأول.
ومؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الأغذية الذي يتتبع التغييرات الشهرية في الأسعار الدولية للسلع الغذائية الأكثر تداولا، بلغ في المتوسط 118.5 نقطة في آذار (مارس) أي بارتفاع نسبته 2.1 في المائة عما كان عليه في شباط (فبراير)، مسجلا أعلى مستوى له منذ حزيران (يونيو) 2014.
وتفاوتت الاتجاهات بحسب أنواع السلع. فالارتفاع خلال شهر آذار (مارس) قد دفعه مؤشر المنظمة إلى أسعار الزيوت النباتية التي زادت بنسبة 8.0 في المائة عن الشهر السابق لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ عشرة أعوام تقريبا، مع ارتفاع حاد في أسعار زيت الصويا يمكن عزوه جزئيا إلى توقع الطلب القوي عليه من جانب قطاع الديزل الأحيائي.
وصعد مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار منتجات الألبان بنسبة 3.9 في المائة عما كان عليه في شباط (فبراير)، مع ارتفاع أسعار الزبدة بسبب الإمدادات القليلة نسبيا في أوروبا المرتبطة بزيادة الطلب عليها تحسبا لتعافي قطاع الخدمات الغذائية. كما ارتفعت أسعار الحليب المجفف مدفوعة في ذلك بارتفاع حاد في الاستيراد في آسيا، خاصة الصين، جراء تراجع الإنتاج في أوسيانيا وندرة توافر حاويات الشحن في أوروبا وأمريكا الشمالية.
كما ارتفع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار اللحوم بنسبة 2.3 في المائة عما كان عليه في شباط (فبراير)، حيث تسببت الواردات من جانب الصين والارتفاع الحاد في المبيعات الداخلية في أوروبا قُبيل الاحتفالات بيوم الفصح، في زيادة أسعار لحوم الدواجن. وبقيت أسعار لحوم الأبقار مستقرة، في حين انخفضت أسعار لحوم الأغنام بسبب الطقس الجاف في نيوزيلندا الذي أدى إلى قيام المزارعين بالتخلص من الحيوانات.
وعلى النقيض من ذلك، انخفض مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الحبوب بنسبة 1.8 في المائة، ولو أنه لا يزال أعلى بنسبة 26.5 في المائة مما كان عليه في آذار (مارس) 2020. وكانت أسعار الصادرات من القمح الأكثر تراجعا، ما يدل على وجود إمدادات وافرة عموما وتوقعات إيجابية لإنتاج المحاصيل في عام 2021. كما انخفضت أسعار الذرة والأرز، في حين ارتفعت أسعار الذرة الرفيعة.
وتراجع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار السكر بنسبة 4 في المائة في الشهر جراء توقع تصدير كميات كبيرة من جانب الهند، لكن المؤشر بقي أعلى بنسبة 30 في المائة من مستواه المسجل قبل عام.
وتتوقع المنظمة أن يرتفع الإنتاج العالمي للحبوب في عام 2021 للعام الثالث على التوالي، وهي قد رفعت توقعاتها الأولية بشأن الإنتاج العالمي للقمح على أساس ظروف المحاصيل التي يتوقع لها أن تكون أفضل من سابقاتها في دول عدة.
ومن المتوقع أن يبلغ الإنتاج العالمي للقمح مستوى مرتفعا جديدا يوازي 785 مليون طن في عام 2021، أي بزيادة نسبتها 1.4 في المائة عن عام 2020، مدفوعا بانتعاش حاد محتمل في معظم أنحاء أوروبا وتوقعات بتحقيق غلة قياسية في الهند.
كما من المتوقع أن تحقق الذرة محاصيل أعلى من المتوسط، مع ترقب غلة قياسية في البرازيل وأعلى مستوى مسجل لأعوام عدة في جنوب إفريقيا، وذلك بحسب موجز منظمة الأغذية والزراعة عن إمدادات الحبوب والطلب عليها، الذي صدر اليوم أيضا.
وبالنسبة إلى موسم التسويق الحالي 2020/2021، يتوقع ارتفاع الاستخدام العالمي للحبوب بنسبة 2.4 في المائة عن العام الماضي، مدفوعا بشكل رئيس بتقديرات أعلى لاستخدام القمح والشعير للأعلاف في الصين حيث يتعافى قطاع الثروة الحيوانية من حمى الخنازير الإفريقية.
ومن المتوقع أن ينخفض المخزون العالمي من الحبوب في نهاية عام 2021 بنسبة 1.7 في المائة عن مستوياته في بداية الموسم ليبلغ 808 ملايين طن. واقترانا بتوقعات الاستخدام، يتوقع لنسبة المخزون إلى الاستخدام للحبوب في العالم خلال الفترة 2020/2021 أن تنخفض إلى حدها الأدنى في فترة سبعة أعوام الذي يوازي 28.4 في المائة.
ورفعت المنظمة توقعاتها بشأن التجارة العالمية للحبوب خلال الفترة 2020/2021 إلى 466 مليون طن، أي بزيادة نسبتها 5.8 في المائة عن العام السابق، مدفوعة بتجارة أسرع وتيرة بالحبوب الخشنة مرتبطة بمستويات غير مسبوقة لمشتريات الذرة من جانب الصين. أما بالنسبة إلى الأرز، فمن المتوقع للتجارة العالمية فيه أن تتوسع بنسبة 6 في المائة من عام إلى آخر.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات