Author

حضارة العلا .. إلى العالم

|

من أرض الجزيرة العربية مرت قوافل الأمم والحضارات الإنسانية، مرت البشرية بالتجارب الإنسانية المحضة، قصص لم تزل ترويها الجبال المنحوتة بيد إنسانية عاندت الظواهر الفيزيائية والتقلبات المناخية، وصمدت في وجه عوامل الطبيعة الجارفة، لتنقل لنا صورة الماضي حاضرة في لوحة ثرية كأنها آلة للتنقل عبر الأزمان. وجنبا إلى جنب يد الإنسان، كان للطبيعة يد من ريح وأخرى من الماء، رسمت بهما لوحات عجيبة من جبال منحوتة كأنها مخلوقات أسطورية، أو ممرات بين الجبال تروي قصص قوافل الحجاج منذ نادى إبراهيم - عليه السلام - في الناس، وقوافل التجار التي مرت عبرها أسواق الدنيا، تحمل الحرير والتوابل والأعناب، في قصص روتها قصائد العرب، وتزاحمت على الصخور المنحوتة بكل اللغات السومرية، والحميرية والآرامية، والنبطية. إنها قصة الحضارة الإنسانية وخطى البشرية منذ ما يزيد على 200 ألف عام، أثبت فيها العلم خطوات البشر على هذه الأرض.
هذه المشاهد الضخمة، وضع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، اهتمامه المباشر والمتواصل لإبرازها وإيضاح الوجه الحضاري لأرض المملكة للعالم أجمع، وفتح كنوزها الحضارية الممتدة في أعماق التاريخ، لتؤكد السعودية، من خلال ذلك أنها صاحبة دور فاعل وحيوي في التاريخ الإنساني، وأن الإنسان السعودي، بجذوره الممتدة في هذا التاريخ، يشارك في رسم معالم الحضارة الإنسانية اليوم، وأن جهود المملكة يجب أن تتصدر مشهد المحافظة على التراث العالمي.
ولاشك أن الأمير محمد بن سلمان، غير نظرتنا عن أهمية التراث الإنساني، ودورنا جميعا في المحافظة عليه، وأنه جزء لا يتجزأ من التاريخ الذي رسم كثيرا من معالم الحاضر، وأن لنا الحق في استثمار هذا التاريخ الذي صنعه إنسان الجزيرة العربية، وفي إبرازه للعالم كدليل على أصالة المجتمع، وحقه في المشاركة الثقافية العالمية، ورسم معالم المستقبل الذي يجد إشعاعاته من الماضي. هذا الطريق يرسمه الأمير محمد بن سلمان، ببراعة - كعادته - في بلوغ الكمال ومنهجه، حيث تم إطلاق الرؤية التصميمية لمخطط "رحلة عبر الزمن"، وذلك بإشرافه المباشر. 
فمخطط رحلة عبر الزمن يرسم أكبر متحف حي في العالم، في رحلة زمنية تأخذ أكثر من مليوني زائر سنويا عبر التاريخ لقصة سبعة آلاف عام من الحضارات المتعاقبة، ترويها للزوار خمسة مراكز تمتد على طول 20 كيلو مترا من قلب العلا، بدءا من البلدة القديمة جنوبا، مرورا بمركز واحة دادان، وواحة جبل عكمة، والواحة النبطية، وصولا إلى مدينة الحجر الأثرية شمالا، مرورا بأكثر من  15 مرفقا ثقافيا جديدا، بما في ذلك المتاحف والمعارض ومعالم الجذب السياحي، مع مزيج خاص من الفنادق ومنتجعات السياحة البيئية، في مسار نحو مزارع الوادي المنحوتة في صخور الجبال، ثم "معهد الممالك" لدراسات الحضارات التي سكنت شمال غرب شبه الجزيرة. فهي رسالة سعودية حضارية للعالم، ونموذجا لالتزام السعودية بالمحافظة على الإرث الثقافي والطبيعي، ونموذجا عالميا للتنمية المستدامة، والمسؤولة والشاملة. 
والمشروع بحد ذاته يعبر عن مفهوم المسؤولية الاجتماعية إلى جانب قيمته الثقافية والحضارية، ذلك أنه سيسهم في توفير 38 ألف وظيفة لأهالي وسكان العلا طيلة الـ15 عاما المقبلة، ويضيف 120 مليار ريال للناتج المحلي الإجمالي، مع تخصيص 80 في المائة من مساحة العلا كمحميات طبيعية لإعادة إحياء النباتات وإعادة النظم الطبيعية، بما في ذلك المحافظة على الحيوانات البرية وإعادة توطينها وحماية الموائل الطبيعية لها، وهو في هذا المسار نفسه يحقق مبادرة "السعودية الخضراء"، بتأهيل عشرة ملايين متر مربع من المساحات الخضراء، بما يسهم في زيادة الغطاء النباتي الطبيعي، ويعزز سلامة البيئة المحلية، ويتماشى تماما مع طموح المملكة للحد من انبعاثات الكربون 60 في المائة، وزراعة عشرة مليارات شجرة، وزيادة المساحات الخضراء 12 ضعفا خلال الأعوام المقبلة. وبهذا تكون السعودية قد نحتت لها اسما مهما في عالم السياحة، والتراث، والثقافة، واستقطبت معها الاهتمام العالمي سعيا إلى تحقيق أهدافها ورؤيتها الحضارية.

إنشرها